الخميس، 19 ديسمبر 2013

ملامح برنامج مقترح للتنمية الخلقية تحقيقا للضبط وحلاً لمشكلات السلوك



ملامح برنامج مقترح للتنمية الخلقية تحقيقا للضبط وحلاً لمشكلات السلوك


بحث مقدم الى
مؤتمر الأمن الاجتماعي والتربية
بكلية التربية بتفهنا الأشراف – جامعة الأزهر
ابريل 2006 .




أ.د / عبد المجيد عبد التواب شيحة                 أ.د / جمـال على الدهشــان
أستـــاذ أصــول التربيــة              أستاذ ورئيس قسم أصول التربية
كلية التربية – جامعة المنوفيـة             كلية التربية – جامعة المنوفية






مقدمة :
تعد قضية الانضباط المدرسى من القضايا المهمة التى تواجه معظم المؤسسات التعليمية ، على اعتبار أن تحقيق الانضباط يعد وظيفة أساسية من وظائفها ، وفى ذلك يؤكد دوركايم (نقلا عن : ألفريدو فيرلان Alfredo Furlan ، 1998، ص 535 ) أن التطور الذى انتقل بالمدارس من أماكن للإقامة إلى مؤسسات للتعليم استهدف تجنب الشغب الذى كان يسببه الطلاب عند انتقالهم من معلم فى جزء من المدينة إلى معلم آخر فى مكان آخر ، وأصبح القائمون على أمر التعليم على قناعة بسهولة السيطرة على هؤلاء الطلاب فى مكان واحد يكفل الإشراف المحكم عليهم وتقدم فيه كل التسهيلات المطلوبة لشغل وقت فراغهم بصورة مثمرة .
وعلى الرغم من أن مشكلات الانضباط المدرسى قديمة ولها تاريخ طويل ، وتمتد بأسبابها فيما وراء الفصل المدرسى وأعضائه ، فإن الدلائل تشير (ألفريدو فيرلان ، 1998، ص 535) إلى أننا نشهد زيادة فى الخروج على قواعد الانضباط المدرسى ، خاصة بين المراهقين فى المدارس الثانوية ، وأن هذا الخروج يأخذ أشكالا جديدة تتمثل فى زيادة معدلات العنف بينهم وبين غيرهم من أعضاء المجتمع المدرسى ، وزيادة بيع المخدرات واستهلاكها ، وإتلاف وتخريب المرافق المدرسية ، وإحداث مشكلات خارج نطاق المؤسسات التربوية ... وغيرها من السلوكيات التى أصبحت مادة إعلامية للصحف اليومية ، فقد نشرت الصحف فى الفترة الأخيرة عددا من الحوادث منها على سبيل المثال " القبض على 37 طالبا بالسويس حاولوا حرق اللجان لحرمانهم من الامتحان " (الأهرام ، 1994، ص20)، " الفصل النهائى لثلاثة طلاب ضربوا مدرسيهم"، (الأخبار ، 1995، ص1) ، " حبس طالب ثانوى حاول ترويج البانجو لزملائه بالمدرسة " (الأهرام 1996، ص19) ، "طالبان يحرقان حجرة الناظر بعد الفشل فى سرقة دفاتر الغياب " (الأخبار، 1996، ص16) ، " طالب قال لزميله أنت بليد فقتله بالمطواه داخل الفصل " الأخبار، 1997، ص14) ، " طالب يلقى بزميله من الفصل إلى فناء المدرسة فيصيبه بعجز فى عموده الفقرى والساق " (الأخبار ، 1997، ص13) ... وغيرها الكثير والتى تحولها الصحف إلى موضوع ذى اهتمام جماهيرى .
ومما تجدر الإشارة إليه أن مشكلات الانضباط المدرسى ليست ظاهرة محلية ، ولكنها موجودة فى معظم المجتمعات المتقدمة والنامية على حد سواء ، وإن اختلفت فى نوعها وحدتها من مجتمع إلى آخر . فقد أشار تقرير عن المدارس الأمريكية (جولدستين، وأبتر وهاروستنيان and Harostunian Apter Goldstein, 1984 ، ص viii) إلى أن العنف يشكل مشكلة قومية فى أكثر من (84) ألف مدرسة أمريكية ، بالنسبة للمعلمين والطلاب والممتلكات المدرسية والمجتمع والعملية التعليمية بصفة عامة ، كما أن هناك (270) ألف حالة اعتداء بدنى تحدث سنويا فى المدارس الابتدائية والثانوية ، وحوالى (500) مليون دولار خسائر فى صورة تحطيم أثاث وسرقات سنويا . ويشير تقرير آخر (بارتاند وديل  Partand and    Dial1977، ص ص 86، 87) إلى أن مشكلة العنف دائرية ، فالمعلمون يلومون الآباء على عنف الأبناء ، والإداريون فى المدارس يلومون المعلمين والآباء ، والنظام التعليمى يلوم المجتمع ، والمجتمع يلوم المدارس ، والأسر والآباء يلومون جماعة الأقران ، والطلبة يلومون المعلمين والمدارس الغبية (10) . ويشير أيضا (ستيفينز Stevens 1997، ص72) إلى أن الجريمة والعنف قد غزت العديد من المدارس الأمريكية ، وحلت المشاجرات بالأسلحة النارية محل المشاجرات بالأيدى ، فالعنف والسلوك العدوانى لم يعد غريبا على المدارس الحضرية والريفية ، وليس مقصورا على أى جماعة اجتماعية ثقافية أو عرقية فهو يلتحم بالمجتمع الأمريكى كله ، وهو ما أدى إلى زيادة تدخل المحاكم والشرطة والمهتمين لخدمة المدارس . وقد امتد العنف إلى الاعتداء على المعلمين ، الأمر الذى دفع بعض الباحثين (بلوك Block ، 19 ، ص ص 58، 62) إلى الحديث عن نمط المعلم المضروب Battered Teacher. حيث أكدت إحدى الدراسات أنه فى عام 1991 تعرض معلم من خمسة معلمين فى أمريكا للاعتداء من جانب الطلبة .
وفى المكسيك يعد موضوع الانضباط المدرسى من الموضوعات ذات الاهتمام الجماهيرى العام ، حيث يؤكد (الفريد وفيرلان 1998 ، ص 561) أن المقالات التى ظهرت فى الصحف حول هذا الموضوع تشير إلى أن بيع المخدرات والكحول والسجائر والتخريب المتعمد والعنف ، والهروب من المدرسة والغياب قد زادت فى المؤسسات ما قبل الجامعية ، بل إن التخريب المتعمد أصبح حقيقة وواقعا فى حياة المناطق المحيطة بالمدارس ، حيث يتهرب الشباب من المدرسة ويصبحون أعضاء فى جماعات أو عصابات .
ونظرا لأهمية دراسة قضية الانضباط المدرسى ، فقد خصص ملف بعنوان " مراقبة الانضباط فى المدرسة " (مجلة مستقبليات 1998) لمناقشتها على المستوى الدولى ، وأنه مما يلاحظ على مجموعة الكتابات التى تم عرضها فى هذا الملف ، أنه يمكن تصنيفها على النحو التالى :
1- كتابات ركزت على مشكلات الانضباط وأسبابها ، ومنها ما يشير إليه (ألفريد وفيرلان 1998) عن تعدد مظاهر عدم الانضباط فى المكسيك ، والتخريب المتعمد للمبانى المدرسية ، والتقاتل أو التعارك مع الطلبة ، والهجوم على المدرسين . ويؤكد أن هناك عوامل عديدة تقف وراء هذه المظاهر السلوكية من أهمها افتقاد الدور المهم الذى يجب أن تقوم به المؤسسات التعليمية فى تعليم الأخلاق ، وبالتالى فتحقيق الانضباط يتطلب بالضرورة تربية خلقية .
وذهب (برادلى أ. ليفنسون Bradley A. Levinson 1998) إلى أن الدراسات الإثنوجرافية حول سلوكيات الطلبة فى البيئات المختلفة تشير إلى أن عدم الانصياع يعود إلى عوامل خارج المدرسة تتمثل فى الوضعية الاجتماعية السائدة (ظروف العائلات الفقيرة ، مشكلات سيكولوجية ، النفوذ السلبى لوسائل الإعلام والزملاء وهكذا) ، وكذلك عوامل تتعلق بظروف المدرسة ، مثل إضفاء المدرسين للطابع المادى البحت على المعلومات التى يقدمونها ، والنزعات العنصرية والفردية ، والتفاوت فى الاتصال وتبادل الأفكار، والنظام العنيف فى المدرسة ، علاوة على أن سمات التنظيم المدرسى والأحاديث قد تؤدى بالفعل إلى أشكال من سوء السلوك والعنف بين الطلبة .
2- كتابات ركزت على تناول استراتيجيات وأساليب سائدة لمواجهة مشكلات الانضباط المدرسى : منها ما يشير إليه (ديفيد أ. تيرنر   David A. turner1998) من إصلاح السلوك قرينا بإصلاح السياسة التعليمية ، حيث أن السياسة التعليمية فى البيئة الإنجليزية تفرض أنماطا من التعليم غير مناسبة لاحتياجات بعض الناشئة مما يزيد من الطلبة صعاب المراس . وناقش ( ماريانو نارودووسكى Mariano Narodowski 1998 ) نظام الإنذارات أو التوبيخ / التأنيب ، كاستراتيجية لعلاج سوء السلوك فى المدارس الثانوية بالأرجنتين ، ويؤكد على أنه مع التسعينات من القرن العشرين بدأ المجتمع الأرجنتينى يحل نظام التعايش فى المدارس محل الإنذارات نظراً لعدم فاعلية الأخير .
وتؤكدان (آنا مارياسيردا ، وجينى آسيل Ana Mariacerda and Jenny Assael 1998) على أهمية القواعد فى الحياة اليومية بالمدارس إلا أنهما يشيران إلى أن فرض هذه القواعد على الناشئة يجعل الطلاب ينصاعون لها دون رغبة منهم مما يجعلهم يتحايلون عليها حين تتاح لهم الفرصة .
وعلى الرغم من أن هذه الكتابات قد تناولت استراتيجيات مختلفة لمعالجة سوء السلوك وعدم الانضباط إلا أننا نلاحظ عليها ملاحظتين أساسيتين ، الأولى ، تتناول الأساليب والاستراتيجيات بصورة جزئية لمعالجة حالات بعينها ، والثانية افتقاد تلك الكتابات لتوضيح دور استراتيجيات وأساليب التنمية الخلقية فى معالجة سوء السلوك رغم أهميتها وانطلاقا من هاتين الملاحظتين سعت الدراسة الحالية لعرض ومناقشة الأساليب والاستراتيجيات السائدة فى أدبيات التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها مما يهدف إلى تعديل السلوك وإحداث التنمية الخلقية بغية تقديم برنامج للتنمية الخلقية يعتمد على هذه الأساليب والاستراتيجيات مجتمعة حلاً للمشكلات السلوكية فى المواقف المختلفة .
مشكلة الدراسة وتساؤلاتها :
تتحدد مشكلة الدراسة الحالية فى محاولة الإجابة عن التساؤلات الآتية :
1- ما الاستراتيجيات أو الأساليب الشائعة لتعديل السلوك وما مدى فاعليتها فى تحقيق الضبط وحل مشكلات السلوك؟
2- ما نظريات وأساليب التنمية الخلقية الشائعة وما مدى فاعليتها فى تحقيق الضبط وحل مشكلات السلوك؟
3- ما ملامح البرنامج الخلقى المقترح الذى يعين على تحقيق الضبط وحل مشكلات السلوك ؟
أهمية الدراسة :
تكمن أهمية الدراسة الحالية من أهمية الموضوع التى تتناوله وهو طرق وأساليب معالجة سوء السلوك والتنمية الخلقية حلا لمعالجة مشكلات الانضباط المدرسى ، التى تؤثر بصورة مباشرة على سير العملية التعليمية ، وتحول دون توفير بيئة آمنة لحدوث عملية التعليم والتعلم ، فهى تؤرق المعلمين وتعوقهم عن أداء عملهم بصورة جيدة ، فالوقت الذى يقضيه بعض المعلمين فى التعامل مع مشكلات الانضباط المدرسى ، قد يتجاوز الوقت الذى يقضيه فى شرح الدروس (جمال الدهشان ، 1991، ص 610) . بل إن البعض يبالغ فيشير إلى أن التدمير المتزايد والمتطور باستمرار لممتلكات الجامعة دليل واضح على ضخامة شكل الانضباط فى المدارس الثانوية العليا بالرغم من أنه أحد مؤشرات الأعراض (ألفريد وفيرلان، 1998 ، ص 568) .
ومن ناحية أخرى فإن الأهمية الكبيرة لمعالجة مشكلات الانضباط فى المدارس ، لا تقف عند حد ضمان النظام والعمل المفيد النافع فى حجرة الدراسة فحسب ، بل يقيم أسسا للمستقبل بإعداد الأفراد للعيش فى المجتمع من خلال المحافظة على العادات الطيبة التى اكتسبوها فى المدرسة ، وهو ما دعى البعض إلى الحديث عن الأثر الممتد للانضباط المدرسى (17) .
كما تكمن أهمية هذه الدراسة – أيضا – فى أنها لا تقف عند تناولها لطرق وأساليب تعديل السلوك عند استعراض النماذج والنظريات ، ولكنها تمتد إلى تقديم برنامج خلقى مقترح يعتقد الباحثان أنه يعين على تحقيق الضبط وحل مشكلات السلوك .
منهج الدراسة وإجراءاتها :
اعتمدت الدراسة الراهنة على منهج التحليل الفلسفى ، الذى تم من خلاله تحليل ومناقشة الاستراتيجيات المتبعة لتعديل السلوك حلا لمشكلات الانضباط المدرسى ، وتوضيح الجوانب الإيجابية والسلبية لكل استراتيجية منها ، فى محاولة للوصول إلى استراتيجية تعتمد على التنمية الخلقية فى معالجة هذه المشكلات بكفاءة وفاعلية . وانطلاقا من ذلك سارت الدراسة وفق الإجراءات التالية :
1- استعراض الاستراتيجيات أو الأساليب الشائعة لتعديل السلوك ، من خلال تناول أبرز النماذج فى هذا الميدان مع استعراض إيجابيات وسلبيات كل نموذج منها ، ومدى فاعليته فى تحقيق الضبط وحل مشكلات السلوك .
2- استعراض نظريات وأساليب التنمية الخلقية الشائعة ، ومناقشة مدى فاعليتها فى تعديل السلوك وتحقيق الضبط.
3- تقديم ملامح برنامج مقترح يعتقد الباحثان – بعد مناقشة الجوانب المختلفة للاستراتيجيات والنظريات السابقة – أنه يمكن أن يسهم فى التعامل مع مشكلات الانضباط وسوء السلوك .

مراجعة نقدية لأدبيات تعديل السلوك :
تحفل أدبيات علوم النفس والاجتماع والأجرام والأخلاق والتربية بالكثير من الاتجاهات والنماذج وأساليب الضبط والتحكم ، والوقاية والعلاج ، والتعليم والتأديب أو إعادة التأهيل . وتكشف مراجعات دريكرز Dreikurs (1972) وسكويتز جيبل Schwitz gebel (1974) وولفجانج وكليكمان Wolfgang & Clickman (1980) وجونز Jones (1987) وولفجانج Wolfgang (1999) عن تفاوت تلك الأساليب والطرق والاستراتيجيات فى درجة المرونة والكفاءة والفعالية فى علاج المشكلات السلوكية . ويتمثل الموقف الذى يتبناه الباحثان فى أنه لا يوجد أسلوب واحد ينجح فى جميع الأوقات مع كل الناس ، ولا ينجح نفس الأسلوب مع نفس الأشخاص إذا تباينت الظروف أو اختلفت المثيرات .
ويمكن وضع تلك النماذج أو الأساليب على متصل يتراوح ما بين التوضيح أو الإرشاد ، والتدخل الفيزيائى لحل المشكلات السلوكية . وفيما يلى يناقش الباحثان تلك الأساليب فى ضوء تقليدين شائعين هما تقليد تعديل السلوك ، وتقليد التنمية الخلقية ، توطئة لتقديم برنامج مقترح يفيد من تلك الأساليب ، ويعين على حل مشكلات الانضباط فى منازلنا ومدارسنا .
أ – تقليد تعديل السلوك :
يشتمل تقليد تعديل السلوك على عدد من النماذج أشهرها نموذج التعضيد الوجدانى ، ونموذج التوسط لفض الصراع ، ونموذج التحليل السلوكى ، ونموذج تحليل المهارات الاجتماعية ، ونموذج العلاج الواقعى ، ونموذج الضبط الذاتى ، واستراتيجيات منع العنف .
1- نموذج التعضيد الوجدانى :
يعتمد نموذج التعضيد الوجدانى على الأفكار المستمدة من أعمال كارل روجرز Rogers (1961، 1965) . وتعتمد الإجراءات العلاجية لكارل روجرز على مفهومى الذات والنمو الإنفعالى ، اللذين يعتبران خروجا على التقاليد الفرويدية التى تعتمد على موضوعى الحتمية والعدوانية . ومن ثم يؤكد روجرز أن توفير الدفء العاطفى للعميل (الشخص موضوع العلاج) يعينه على اختيار ما هو أفضل له وبالتالى يكون قادراً على التصرف المناسب . يقول روجرز (1961 ، ص 55) : " بدأت أشعر أن تجنب الحكم على العلاقة بين المعالج والعميل يعين العميل على إدراك أن مركز الحكم والمسئولية يقع داخله ، ومعنى وقيمة هذه الخبرة أمر يتعلق به شخصيا فى التحليل النهائى ، ولا تستطيع أية كمية من الحكم الخارجى أن تغير هذا " .
ومن الافتراضات الأساسية فى نظرية كارل روجرز (1965 ، ص43) أن كل شخص كائن فريد ، ومن المستحيل أن يتخذ شخص القرارات المناسبة لشخص آخر ، لأن الشخصين يخبران الموقف الواحد بطرق مختلفة ، ويفسرانه وفقا لأهدافهما واتجاهاتهما وتوقعاتهما . ويرى (ص 23) أن العميل كائن خير وعقلانى ، فإذا بدا سلوكه سيئا فمعنى ذلك أنه يعانى من مشكلة داخلية تغمره ، ويكون سلوكه السىء تعبيرا عنها . وبالتالى لا ينبغى للمعالج أو المربى أن ينظر إلى العميل أو الطفل باعتباره سيئا ، بل يساعده فى التعبير عن مشاعره .
وتؤكد الاتجاهات العلاجية التى تعتمد على أفكار روجرز على ضرورة توفير الدفء العاطفى بين المعالج والعميل أو المربى والطفل معا ، والعمل على دعمه ومساعدته على تكوين مفهوم ذات إيجابى ، وتقبله باعتباره شخصا جديرا بالعناية والرعاية والاحترام وعلى سبيل المثال ، تعتمد طريقة توماس جوردون Gordon (1988) ، المستمدة من نموذج روجرز ، على تقديم بعض النصائح والإرشادات للمعالج تتعلق بما ينبغى عمله مع العميل ، مثل الاستماع النقدى الواعى ، واعتماد استجابات العميل وقبولها ، واستخدام الأسئلة التى تعين العميل فى التعبير عن انفعالاته . ويقدم النموذج عددا من الخطوات لحل المشكلات السلوكية ، مثل تحديد المشكلة ، والتفكير فى الحلول الممكنة ، وتقديم الحلول ، واختيار الحل المناسب، وتنفيذه بحيث يتعاون المعالج والعميل أو قل المربى والطفل فى حل المشكلة بطريقة ديمقراطية ويكسب الجميع الاتفاق على الحل المناسب ، ووضعه موضع التنفيذ .
ومما ينبغى ملاحظته أن لنموذج كارل روجرز إيجابياته وسلبياته، فمن الناحية الإيجابية يؤكد النموذج على العلاقة الحميمة بين المعالج والعميل أو المربى والطفل ومساعدته على اكتساب مفهوم ذات إيجابى ، ووضوح النموذج وتحديده لما ينبغى أن يقوم به المعالج من أفعال كالاستماع النقدى الواعى ، والاستجابة المشجعة ، والتقبل غير المشروط ، وتشجيع الطفل على التعبير عن انفعالاته والتفكير فى حل مشكلاته ، فضـلا عـن الاتجاه الديمقراطى الغالب على النموذج . ومن الناحية السلبية يفترض النموذج عقلانية العميل دون تحديد للعمر الذى يكون فيه عقلانيا ، ولا يمكن افتراض العقلانية لدى المتخلفين عقليا وتركهم يختارون لأنفسهم ، ولا يصلح النموذج مع غير القادرين على التعبير عن أنفسهم ، ولا يمكن استخدامه فى جميع المواقف وبخاصة مواقف الصراع ، فضلا عن طول الوقت المستغرق فى الاستماع وتدريب العميل على حل مشكلاته .
2- نموذج التوسط لفض الصراع :
يعتمد نموذج التوسط لفض الصراع على تدريب الأقران على التوسط بين الأطراف المتصارعة لحسم الخلافات بعيدا عن المربى . ويؤكد النموذج كما يفهمه سكرمب وزملاؤه Schrumpb, et al. (1997) وبودن وزملاؤه Bodine, et al. (1994) أن الطلبة أكفأ من المعلمين فى حل مشكلات الطلبة لأنهم أقدر منهم على صياغة المشكلات على نحو يفهمه الطلبة ، ولأن هذه الطريقة تشعر الطلبة بالاستقلال والقدرة على حل المشكلات بعيدا عن تدخل الراشدين .
وتتألف عملية التوسط فى فض الصراع من عدة خطوات هى :
- الموافقة على الوساطة ووضع قواعد التفاوض .
- جمع وجهات النظر من أطراف الصراع .
- البحث عن الحاجات والاهتمامات المشتركة .
- تحديد البدائل التى ترضى أطراف الصراع .
- تقديم البدائل واختيار البديل الأفضل .
- الحصول على الموافقة على البديل ووضعه موضع التنفيذ .
ومما لا شك فيه أن لنموذج التوسط فى فض الصراع إيجابيات كثيرة تتمثل فى إكساب الطلبة مهارات التفاوض مثل فهم الآخرين ، والاحتفاظ بالهدوء ورباطة الجأش ، والنضج الذهنى ، والبحث عن الحلول الوسطى ، وتحديد الأهداف والدوافع والحاجات ، وتبرير المواقف ووجهات النظر ، وتنمية مهارات الاتصال مثل طرح الأسئلة بلباقة ، والإصغاء باهتمام ... إلخ .
غير أن نموذج التوسط لفض الصراع يحتاج إلى وقت كبير لتدريب الطلبة على مهارات التفاوض ، وبالتالى ينتقص من الوقت المخصص للأعمال الأكاديمية ، ويستبعد المعلمين أو الراشدين من عمليات التفاوض، ويقصر عملهم على الإشراف والتوجيه ، ويتطلب حسن اختيار الوسطاء وتدريبهم ، فضلا عن إخفاقه فى فض الصراع إذا أحجم أطراف الصراع عن تقديم التنازلات .
3- نموذج التحليل السلوكى :
يتطلب نموذج تحليل السلوك أساليب تدخل قوية ، حيث يخطط المحلل أو المعلم لعمليات تعديل سلوكية منظمة ، لمساعدة الطلبة المشكلين على التحكم فى أنفسهم . ومن أهم ركائز هذا النموذج الاعتماد على التعزيز الموجب والسالب ، وإطفاء السلوك غير المرغوب أو كفه ، ووفقا لهذا النموذج يقسم السلوك إلى أجزاء يستطيع الطالب أن يحقق نجاحا منها ، ويشعر بالكفاءة حينما يتعلم السلوك المرغوب ويحصل على المكافأة المادية واللفظية المناسبة . ويحدد ألبرتو وتراوتمان Alberto & Troutman (1990) عددا من الخطوات التى يمكن للمعلمين استخدامها فى التحليل السلوكى مثل:
- البدء بتحديد الأهداف السلوكية للطالب المشكل .
- كتابة الأهداف والنص عليها .
- بيان الظروف التى يظهر فيها السلوك المراد تعديله .
- وضع معايير للأداء المقبول .
- ملاحظة السلوك المشكل وتسجيله فى جداول وفقا لتاريخ ظهوره .
- تعزيز السلوك المقبول فور ظهوره بالمفردات المناسبة .
- التدرج فى تحقيق انطفاء السلوك غير المقبول بإزالة المثيرات المفرزة أو اللجوء إلى العقاب .
ومن إيجابيات نموذج التحليل السلوكى تركيزه على الأهداف السلوكية ، وتجزئة السلوك أجزاء يمكن التعامل معها وتحقيق النجاح فيها ، ووضع سياسة للأداء المقبول والاعتماد على التعزيزات الإيجابية والسلبية . غير أن الأسلوب يمكن أن يؤدى إلى الضرر إذا لم يستخدم بعناية ، وقد يكون غير خلقى ، ولا يسمح للطالب باستخدام قدراته العقلية ، ويحتاج إلى تسجيلات وإجراءات معقدة .
4- نموذج تعليم المهارات الاجتماعية :
يعتمد نموذج تعليم المهارات الاجتماعية كما يوضحه ماكجينس زملاؤه McGennis, et al. (1997) على عدد من الحقائق التى تتعلق بالتعلم ولعب الدور والتغذية الرجعية . وتتمثل المسلمة الأساسية للنموذج فى أن كثيراً من الطلبة لا يتعلمون المهارات الاجتماعية الأساسية فى بيوتهم أو فى المؤسسات الدينية أو الترفيهية، ولا تستطيع أن تخبر الطالب بالكف عن سلوك معين أو إتيان سلوك معين ، بل يجب أن نكسبه المهارات الاجتماعية ، حتى يتعلم إصدار الاستجابات السلوكية المناسبة . فإذا أمكننا تحديد عدد من المهارات الاجتماعية استطعنا التوفر على تعليمها داخل المدرسة ، عن طريق تقديم النموذج أو لعب الدور ، أو التغذية الرجعية وتعتمد مبادىء التعليم فى هذ النموذج على أنماط التعزيز التى يحددها نموذج التحليل السلوكى .
ويرى ماكجينس وزملاؤه أن المهارات الاجتماعية تختلف باختلاف العمر ، وتختلف فى الطفولة المبكرة عنها فى الطفولة المتأخرة أو المراهقة . وبالتالى يجب تحديد المهارة أو المهارات الاجتماعية المناسبة لكل مرحلة عمرية واستخدام الوسائل المناسبة لتعليمها ، إما عن طريق التقليد وتقديم النموذج ، أو استخدام التغذية الرجعية ، أو تقرير واجبات مدرسية ، أو الاعتماد على العزل باعتباره وسيلة للتدخل الفيزيائى ، أو استخدام غير طريقة من الطرق السابقة . ومن أمثلة المهارات الاجتماعية التى يمكن للمعلمين التوفر على تعليمها للتلاميذ ما يلى :
- مهارات الكلام والاستماع والشكر .
- مهارات السؤال والجواب واتباع التعليمات .
- مهارات التعبير عن الانفعالات .
- مهارات تكوين الصداقات .
ومن حسنات نموذج تعلم المهارات الاجتماعية اعتماده على أكثر من أسلوب للتعليم ، مثل تقديم النموذج ، ولعب الدور ، والتغذية المرتدة ، وإمكانية استخدامه فى جميع المهارات العمرية والتعليمية . غير أن النموذج يحتاج إلى تدريب طويل ولا ينجح إلا بتعاون المعلمين والإداريين وأولياء الأمور والتلاميذ ، واتخاذ قرار يتعلق بالوقت اللازم للبرنامج ، الأمر الذى قد يتعارض مع حاجات الناس والوقت المخصص للأعمال الأكاديمية .
5- نموذج العلاج الواقعى :
قدم وليام جلاسر Glasser فى غير عمل من أعماله (1969، 1975، 1986، 1992) طريقة للعلاج النفسى تعين على تعديل السلوك ، وتتعارض فى الآن عينه مع التقاليد الفرويدية ، التى تشجع على الاعتماد ، وتحول دون تحقيق استقلال العميل . ويذهب جلاسر بصفة عامة إلى أن الشخص الذى يهرب من الواقع بالسلوك على نحو غير مناسب ، يحتاج إلى المساعدة والإرشاد إلى السلوك المنطقى الذى يناسب الموقف . إنه يعتقد أن الفرد يجب أن يعيش فى عالم من الناس الآخرين ، ويشبع حاجاته على نحو لا يتعارض وحق الآخرين فى إشباع حاجاتهم ، ويؤكد جلاسر فى كتابيه : " مدارس بلا فشل " و " العلاج الواقعى " أهمية العلاقة الحميمة بين المعالج والمريض ، والعناية والرعاية للشخص سيىء السلوك . وفى كتابه " مدارس بلا فشل " يقدم عددا من الإرشادات ، التى تعين المعلمين على تقديم سلوكهم فى علاقتهم بالمتعلمين ، وكيفية تهيئة مدارس يشعر فيها المتعلمون بأنهم مقبولون وغير فاشلين ، ويقدم جلاسر خطوات يوجب على المعلم اتباعها فى تعامله مع الطالب المشكل مثل التقليد فيما يجب أن يفعله ، وتأسيس علاقة جيدة مع الطالب المشكل ، وسؤال الطالب عما يفعل ، ومدى موافقة سلوكه للقواعد المتفق عليها ، وإرشاده إلى كيفية السلوك ، والتدرج فى استخدام العقاب مثل عزل الطالب داخل الفصل ، وعزله خارج الفصل ، وفصل الطالب ، وطلب المساعدة المهنية من الأخصائيين .
ومن مزايا نموذج العلاج الواقعى تأكيده على العلاقة الشخصية الحميمة بين المعلم والمتعلم ، وتشجيعه على الاستقلال وتحمل المسئولية ، والتدرج فى استخدام العقاب . ومن مثالبه أنه لا يصلح للتعامل مع جميع الأشخاص ، واستحالة عقد مقابلات مطولة أثناء اليوم الدراسى أو إحداث تعديلات فى التنظيمات المدرسية .
6- نموذج الضبط الذاتى :
يقرر نموذج الضبط الذاتى كما تفهمه سونيا بلاند فورد Blandford (1998) أن أفضل طريقة لضبط سلوك التلاميذ فى المدرسة الاعتماد على قدرة التلاميذ على حكم أنفسهم عن طريق نظام للتأديب الذاتى . تقول بلاندفورد (ص2) : " إذا كان جميع أعضاء المجتمع المدرسى مؤدبين تأديبا ذاتيا فلا توجد مشكلات تتعلق بضبط السلوك " ولا يمكن البلوغ إلى هذه الغاية إلا بإشراك جميع أعضاء المجتمع المدرسى فى تقرير سياسة التأديب حيث تقول (ص 7) : "ينبغى لجميع أعضاء المدرسة أن يشتركوا فى صياغة الأخلاق وسياسة التأديب " .
ولا يمكن البلوغ إلى هذه الغاية إلا بخلق روح المجتمع المحلى فى المدرسة عن طريق التعرف على حاجات مختلف الأعضاء ، وإعانتهم على فهم البناء التنظيمى للمدرسة . وترى بلاند فورد (ص ص 30-31) أنه يمكن خلق روح المجتمع المحلى فى المدرسة باتباع الخطوات التالية :
- تنمية الإحساس بحاجات الاعضاء .
- قيام المعلمين بالأنشطة التى تجعلهم نماذج سلوكية .
- أداء جميع الأعضاء لأدوارهم وتحمل مسئولياتهم .
- الاستخدام الأمثل لأساليب الثواب والعقاب .
- توفير الدفء العاطفى فى العلاقات الاجتماعية .
- التعاون بين أعضاء المجتمع المدرسى فى حل المشكلات .
- الاتصال الوثيق بين البيت والمدرسة .
- مكافأة السلوك الحسن ومعاقبة السلوك السىء .
- وضع قواعد للسلوك وتبريرها .
ولا مشاحة فى إيجابية نموذج التأديب الذاتى لاعتماده على الأساليب الديمقراطية ، والمشاركة فى تحديد الميثاق الخلقى وأسلوب التأديب ، ورعايته لحاجات مختلف أعضاء المجتمع المدرسى ، وتوثيق الصلة بين البيت والمدرسة ، ودعوته إلى التأديب الذاتى . غير أن الأسلوب يحتاج إلى تعاون خلق كثير مما يسبب مشكلات عملية ، ويحتاج إلى وقت طويل وتحقيق للتوازن بين الوقت اللازم للاتفاق على كل أمر ذى بال والوقت الأكاديمى .
7- استراتيجيات منع العنف :
انشغل كثير من العلماء والباحثين بتقديم استراتيجيات وأساليب للتغلب على أحداث العنف والشغب التى يبديها الطلبة فى المؤسسات التعليمية . وكان لجهود جولدستين Goldstein وزملاؤه (1984، 1997) أثر بالغ فى هذا الاتجاه ، وتقدم سوزان ستريبلنج Striepling (1997) ، اعتمادا على خبرتها الشخصية كمعلمة ، عددا من الإرشادات للمعلمين ، لتقليل فرص حدوث أعمال العنف فى فصولهم ، مثل ضرورة التعرف على الخصائص الديموجرافية للتلاميذ ، والاحتفاظ بسجلات عن خصائصهم الشخصية وسماتهم ومشكلاتهم ، والحرص على خلق روح التعاون والاحترام بين التلاميذ ، ووضع القواعد التى تحكم سلوك الأعضاء فى المدرسة ، وتحقيق التعاون بين البيت والمدرسة . وترى ستريبلنج (ص 26) أن نجاح المعلم فى خلق روح المجتمع المحلى فى المدرسة يعين على تقليل المشكلات السلوكية التى يبديها التلاميذ فى المدرسة . وتدعو المؤلفة (ص 27) المعلمين إلى اتباع أساليب تعليمية تقلل من حدة المشكلات السلوكية فى الفصل مثل وعى المعلمين بكل ما يدور فى الفصل طوال الوقت ، والقدرة على القيام بأكثر من عمل فى نفس الوقت ، كأن يعالجوا مشكلة سلوكية وهم يؤدون عملا أكاديميا ، وأن يبدوا تحمسا للعمل الذى يقومون به لحمل التلاميذ على متابعتهم ، وأن يهتموا بالفصل كله ولا يقصروا اهتمامهم على جماعة معينة ، وأن يثقوا فى التلاميذ ويتوقعوا الكثير منهم أكاديميا ، وتؤكد ستريبلنج (ص ص 3-6) أهمية صياغة القواعد السلوكية التى تحكم سلوك التلاميذ فى الفصل ، وتشترط أن تكون القواعد قليلة العدد ، وأن تناقش مع التلاميذ ، وأن تصاغ بطريقة إجرائية ، وأن تعلن فى مكان بارز فى الفصل بحيث يراها جميع التلاميذ ، وأن تغطى القواعد كل شىء فى الفصل مثل طريقة دخول التلاميذ فى الفصل وكيفية الكلام والاستئذان للذهاب إلى الحمام ، والسؤال والجواب . وتوصى أيضا (ص 31-32) بأن يحرص المعلمون على الاتصال بالآباء ، والتماس تعاونهم وتعضيدهم ، وإشراكهم فى الحملة المدرسية والمشاركة فى حل المشكلات التى يمكن حدوثها فى المدرسة . ولا شك أن لتلك النصائح والإرشادات أهميتها فى التغلب على مشكلات العنف ، لأنها عملية ، وصادرة عن خبرة مهنية ، ويمكن الاعتماد عليها بثقة كبيرة.
ب- تقليد التنمية الخلقية :
يشتمل تقليد التنمية الخلقية على اتجاهين أساسيين يعتبران مصدرا للأفكار عن التربية الخلقية وهما النظريات الخلقية العامة وأساليب التنمية الخلقية المستمدة من النظريات الخلقية . وفيما يلى عرض وتحليل لهذين الاتجاهين .
1- النظريات الخلقية :
يذهب بركويتز وجريك Berkowitz & Grych (1998، ص ص 371- 372) إلى أنه لا يوجد اتفاق على المكونات الأساسية للأخلاق لاختلاف منازع المنظرين وتباين اهتماماتهم . فعلماء النفس التحليليون يؤكدون على المعايير الاجتماعية المستدخلة ، كالضمير أو الأنا العليا ، ويؤكد علماء النفس السلوكيون على السلوك الظاهر كالأمانة والخيانة والصدق والكذب . ويؤكد علماء البيولوجيا وعلم النفس والنمو على الوظائف التطورية وتأثير الجينات فى الخصائص الخلقية ، بينما يؤكد علماء علم النفس المعرفى على التفكير الخلقى واتخاذ القرار ، ويكشف استقراء التفكير الخلقى عن تنوع هائل فى معنى الأخلاق والحكم الخلقى والسلوك الخلقى . ويمكن معالجة التنوع الكبير فى النظريات الخلقية وفقا لمكونين أساسيين هما شكل الأخلاق ومحتواها .
فالأخلاق فى النظريات المعنية بالشكل تبدو فى الطريقة التى تصنع بها الأحكام الخلقية أو الطريقة التى يتم بها البلوغ إلى الاستنتاجات الخلقية مثل الرجوع إلى المبادئ العامة فى تبرير أفعال معينة ، والأخلاق فى النظريات المعنية بالمحتوى تتعلق ببعض الموضوعات مثل العدالة أو مراعاة مشاعر الآخرين أو زيادة السعادة أو الرفاهية الإنسانية ، وبناء على ذلك يكون سلوك الشخص خلقيا حينما يعنى بتلك القضايا عند اتخاذ قراراته وأفعاله . وفيما يلى نقدم أمثلة لهذين النوعين من النظريات الخلقية .
أ – نظريات الشكل :
تعتبر النظرية الإرشادية لهير Hare (1952) والنظرية الوجدانية لستفنسون Stevenson (1944) والنظرية الوجودية لسارتر Sartre (1973) ، والنظرية الاستدلالية لأرسطو Aristatle (1955) أمثلة بارزة للنظريات الخلقية المعنية بشكل الأخلاق . وفيما يلى وصف وتحليل لتلك النظريات ، وبيان للتربية الخلقية التى تقترحها .

1- النظرية الإرشادية :
يعتبر م. هير Hare (1952) خير ممثل للنظرية الإرشادية . وأفضل طريقة لفهم نظريته هى أن ننظر على الأخلاق باعتبارها لغة . فلكل لغة فى رأيه صورة وبناء ، وتتألف من كلمات ومفاهيم ودلالات ، ويمكن أن تستخدم بطريقة صائبة أو خاطئة . وفى ضوء هذه الاعتبارات تكون الأخلاق فى رأيه لغة الأمر الذى يسوغ اكتشاف المعنى الخلقى من دراسة شكل الحديث الخلقى أو لغة الأخلاق والإرشاد من أهم خصائص لغة الأخلاق عنده ، يقول هير Hare (1952، ص1) " إن لغة الأخلاق هى نوع من اللغة الإرشادية " فلكى يكون الحكم خلقيا يجب أن يرشد صاحبه إلى ما يفعله ، ويعنى ذلك أن اللغة الخلقية يجب أن تكون مرتبطة بأفعال الناس . والخاصية الثانية للغة الأخلاق فى رأى هير هى العمومية ، فالحكم الخلقى الذى يصدره الشخص ويذعن له فى موقف يجب أن يصدره ويذعن له فى جميع المواقف المماثلة .
إن تفسير هير الشكلى للأخلاق أدى إلى تفسيره الشكلى للتربية الخلقية التى أجملها فى بحث له بعنوان " اللغة والتربية الخلقية " (1973) . فلقد ادعى أن الشكل وليس المحتوى هو الأمر المهم فى الأخلاق ، حيث يقول (ص 164) : " إننى مقتنع بأنه إذا فهم الآباء والأبناء الطابع الشكلى للأخلاق والمفاهيم الخلقية فلا حاجة للقلق على محتوى المبادىء الخلقية لأنه إذا فهم الشكل حقا فإن المحتوى يعنى بنفسه " ومن خلال الاعتماد على خاصيتى الإرشاد والعموم استنتج هير عددا من المطالب الضرورة للتربية الخلقية .
ومن أهم تلك المطالب ما يلى :
أ – إذا كانـت وظيفـة الأحكـام الخلقيـة إرشـاد الفعـل وتوجيهـه فـإن علـى المربـى أن يلتـزم بمبادئـه ولا يتكلـم عنها فقط (1973، ص 154).
ب- إذا كانت الأحكام الخلقية إرشادية فينبغى أن نبين للأطفال أن الأحكام الخلقية لا تعبر عن حقائق يمكن تعلمها بل هى اختيارات للمبادئ تؤدى إلى تبنى طريقة خاصة فى الحياة (ص 155) .
جـ- وإذا كانت الأحكام الخلقية تتضمن تعميم المرء لإرشاداته فإن على التربية الخلقية أن تعلم الأطفال وضع أنفسهم موضع الآخـرين والشعـور بمشاعرهـم والتنبـؤ بنتائـج أفعالـه عليهـم (ص 161).
د – وإذا كانت العمومية تعنى أن الفرد الخلقى لا يستطيع أن يفضل مصالحه على مصالح الآخرين فإن على التربية الخلقية أن تعلم الأطفال أن يحبوا زملاءهم وأن يعتبروا مصالحهم مساوية لمصالح زملائهم (ص ص 163 – 164) .
2- النظرية الوجدانية :
تتفق النظرية الوجدانية لستفنسون Stevenson (1944) مع النظرية الإرشادية لهير فى إنكار موضوعية الأحكام الخلقية . وتتمثل الوظيفة الأساسية للنظرية الوجدانية فى نقل المشاعر والاتجاهات ومحاولة التأثير فيها ، فإذا ادعى شخص أن إجراء تجارب مؤلمة على كائنات حية غير خلقى ، فإن ما يجعل حكمه خلقيا لا يتمثل فى تقريره لحقيقة بل فى نقله لمشاعره وكأنه يقول : أنا لا أوافق على إجراء تجارب مؤلمة على كائنات حية ، ويتمثل الإرشاد فى القول : لا تجرها ولا تشجع على إجرائها . وبعبارة أخرى فإن إصدار الحكم الخلقى يتمثل فى تعبير الفرد عن مشاعره فى صورة استحسان أو استهجان ومحاولة إغراء الآخرين بالمشاركة فى تلك الوجدانات . ومن ثم تصبح الأخلاق وفقا للنظرية الوجدانية أمرا يتعلق بالتأثير فى الآخرين من خلال تعبير الفرد عن عواطفه ومشاعره . وهذا ما يجعل التصريحات الخلقية ذاتية ويقدم تفسيرا لعدم الاتفاق على المشكلات الخلقية .
وفيما يتعلق بالمضامين التربوية نقول : إن الفلاسفة الوجدانيين لم يبينوا المضامين التربوية لنظريتهم الوجدانية ولكن أظهر ما يمكن ملاحظته على تلك النظرية أنها تجعل الأخلاق مجرد نوع من الاعتقاد الشخصى . وبالتالى لا يستطيع الآباء أو المربون سوى نقل مشاعرهم نحو الكذب أو السرقة أو القتل بقصد التأثير فى مشاعر أبنائهم . إنها لا تعتمد على المناقشة لإقناع الأطفال ، وبالتالى تكون النظرية ذاتية وتسلطية وغير عقلية . إن نجاح التعليم الخلقى الثرى يترتب على هذه النظرية يقاس بإحداث الاتجاه الوجدانى المطلوب والترويج له وليس بترقية الفهم أو تنمية التفكير الخلقى .
3- الوجوديـة :
الوجودية ليست نظرية خلقية ، وليست نظرية واحدة لأنها تتضمن عددا من المواقف الفكرية المختلفة التى ترتبط ببعضها ارتباطا ضعيفا . ومن ثم سوف نقصر اهتمامنا على وجهة النظر الخلقية التى عبر عنها سارتر Sartre فى محاضراته عن " الوجودية والنزعة الإنسانية " (1973) لأن سارتر يقدم زعما يدرجه فى قائمة أصحاب النظريات المعنية بالشكل حيث يقول (ص 52) : " على الرغم من أن محتوى الأخلاق متغير ، فإن للأخلاق شكلا عاما معينا" ومن العسير تلخيص نظرية سارتر دون بيان موقفه الفلسفى العام . ويتمثل موقفه الفلسفى فى أن الفعل يكون خلقيا إذا اختير وأنجز بحرية ، فهو يزعم (ص 28) أن " الإنسان ليس شيئا غير ما يصنعه من نفسه " الأمر الذى يعنى أن قوة الاختيار عند الإنسان هى العامل المهم ، ومعنى أنك تختار هو أنك تؤكد قيمة البديل المختار حيث يقول (ص 29) : " إننا غير قادرين إطلاقا على اختيار البديل الأسوأ " ولا نستطيع تأكيد عنصر القيمة فى اختياراتنا بالاعتماد على سلطة أو مبدأ حيث يقول (ص 34) : " ليس أمامنا ولا وراءنا فى عالم القيم أية وسيلة للتبرير أو الاعتذار . إننا نترك وحدنا بدون عذر" إن سارتر يؤكد حرية الاختيار والحكم المستقل ويجعلهما شرطين كافيين للأحكام والأفعال الخلقية .
وتتمثل المضامين التربوية لتفسير سارتر للأخلاق فى الاعتراف بأهمية تعلم المرء استخدام حكمه المستقل فى اتخاذ القرارات الخلقية بدلا من اعتماده على سلطة خارجية . إنه ينكر فرض أحكام الآباء والمربين على الناشئة ، الذين يطالبهم باختراع قانون لأنفسهم حتى يكونوا خلقيين ، ولكننا نرى أن الصغار لا يستطيعون البلوغ إلى تلك الغاية دون كثير من الإرشاد والتعليم والتفسير وتقديم النماذج ،الأمر الذى يعتمد على قبول القواعد والمبادئ والسلطة الخارجية . إن ترك الصغار دون معتقدات ومبادئ تعين على التنمية الخلقية يجعل تعليم الأخلاق وفقا لنظرية سارتر لغزا أو أحجية ، حقا إنه يؤكد على ضرورة الثقة فى غرائزنا ولكن غرائزنا لا تتعدل ولا تتهذب إلا بالتنشئة ، وإذا كان للغرائز أن تصبح مشاعر خلقية فإنها تحتاج إلى التهذيب بوساطة القواعد والقيم التى نتعلمها .
4- النظرية الاستدلالية :
أجمع الفلاسفة منذ عصر أرسطو على الاعتقاد فى أهمية المبادئ للتفكير الخلقى ، ولكن هذا الإجماع يتضاءل بالنظر فى الدعاوى المتصارعة بسبب تفضيل مبادئ معينة على غيرها ، وبسبب تباين طرق الاستدلال الخلقى . والسؤال المهم هو كيف ترتبط المبادئ بالأحكام والأفعال الخلقية ؟
وتتمثل إجابة أرسطو فى كتابه " الأخلاق " (1955، الكتاب السابع ، الفصل الثالث) فى أن هناك ثلاثة عناصر أساسية فى الاستدلال الخلقى هى : أولا ، مبدأ عام يقرر أن فئة من السلوك صحيحة أو خاطئة (مثل من الخطأ أن تخلف الوعد) ، ثانيا ، معرفة أن موقفا معينا يندرج فى تلك الفئة (مثل إننى وعدت أن أعود صديقى المريض هذا المساء) ، وثالث ، استنتاج أن فعلا معينا ينبغى أو لا ينبغى إنجازه (مثل يجب أن أعود صديقى) . وبناء على ذلك تكون الأخطاء الخلقية أخطاء فى الاستدلال أو فهم المبدأ أو الإحجام عن النتيجة الضرورية . إن هذا الوصف الأرسطى يقدم بعض القواعد التى تميز الاستدلال الخلقى الجيد وغير الجيد ، ولكن تطبيق الاستدلال لا يقدم تفسيرا صحيحا لشكل الأخلاق لأن شكل المبدأ العام الذى تستنتج منه نتيجة لا يصدق فقط على مجال الأخلاق فهناك مبادئ عامة فى مجالات كثيرة لا ترتبط بالأخلاق ، ومن ثم فإن إجراء الاستدلال لا يمثل فى ذاته شيئا مميزا للأخلاق . كما أن تطبيق المبدأ يستبعد من نطاق الأخلاق التدبير الذى يعتبر أمرا مركزيا فى الخيرة الخلقية . هذا فضلا عن أن المبادئ لا تعتبر حلولا مباشرة للمشكلة الخلقية لأنها هى نفسها يمكن أن تتصارع ، وليس اندراج موقف خاص تحت مبدأ معين أمرا واضحا ، إننا قد نعتقد أن سرقة الملكية العامة خطأ ونخفق فى إدراك أن التهرب من الضرائب أو عدم دفع أجرة سيارة عامة أمثلة لما يدينه المبدأ .
والسؤال المهم تربويا هو ماذا يتعلم الأطفال من تطبيق المبدأ ليكونوا مثقفين خلقيا ؟ من المحتمل أنهم يتعلمون طريقة تطبيق المبدأ على المواقف المعينة ، ولكننا لا نستطيع أن نعلم شخصا طريقة من هذا النوع دون أن نعلمه طائفة من المبادئ التى يطبق عليها ، ومن ثم لا يستقيم برنامج للتربية الخلقية يخلو من المحتوى ويوجه فقط لتعليم ما يسمى بالاستدلال الخلقى ، وفى كثير من الأحيان لا يكون لدينا مبدأ واضح نطبقه بادئ ذى بدء ، ولكن الإنشغال بالموقف والنظر فى البدائل قد يعين على صياغة المبدأ فى النهاية ، ولا يكون للمبادئ معنى ما لم تستمد من خبرة الطفل بالمواقف الفعلية .
ب- نظريات المحتوى :
تشتمل النظريات الخلقية المعنية بالمحتوى على عدد من الأفكار أو المبادئ التى نحتكم إليها فى النظر إلى القضايا أو المشكلات الخلقية أو تبرير أنواع معينة من السلوك مثل الاحتكام إلى الطبيعة أو العقل أو اللذة أو السعادة أو آراء الثقات . وفيما يلى وصف وتحليل لتلك النظريات ، وبيان لما يترتب عليها من تصورات مختلفة للتربية الخلقية .
1- الاحتكام إلى الطبيعة :
إذا كانت المشكلات الخلقية تنشأ فى إطار تفاعل الإنسان مع أخيه الإنسان ، وتفاعله مع بيئته المادية والاجتماعية ، أفلا ينبغى أن ننظر إلى الحقائق الخاصة بطبيعة الإنسان والعالم الذى يعيش فيه بحثا عن مداخل لفهم طبيعة الأخلاق ؟ إن هذا الاقتراح يقع موقع القلب من النظرية الخلقية ، التى تعرف بالنزعة الطبيعية . وهناك صور كثيرة من هذه النظرية تعتبر نتاجا لافتراضات عامة غير ممحصة عن الأخلاق انتقدها مور Moore (1968) وهير Hare (1952، 1963) وكانت نظرياتهم الخلقية رد فعل لها . والاعتراض الأساسى على النزعة الطبيعية يتمثل فى السؤال : لماذا يعتقد أن لما هو طبيعى ارتباطا ضروريا بما هو خلقى ؟ إن اعتبار شىء أمرا ضروريا لا يجعله بالضرورة مدعاة للاستحسان من وجهة النظر الخلقية . فأشعة الشمس تصدر عن الشمس طبعا ولا تعتبر أمرا خلقيا. وتشتمل بعض الخصائص الإنسانية على ميول طبيعية كالغيرة والعدوان والأنانية ولا تعتبر هذه الخصائص مرغوبة خلقيا .
ويؤكد فرويد Freud (1960، ص ص 23، 24) أن من الطبيعى أن يرغب الأطفال الذكور فى قتل آبائهم ، والنوم مع أمهاتهم. فهل نستنتج أن قتل الولد لأبيه ، والاتصال الجنسى بالمحارم شىء حسن خلقيا ، لمجرد أن هذه الميول طبيعية ؟! إن الاعتقاد فى وجود خصائص إنسانية طبيعية يمكن أن يؤدى إلى مشكلات خلقية ، مثل كيف ينبغى أن نعامل الأطفال الميالين إلى قتل آبائهم ؟ وفى مثل هذه الحالة تعتبر تلك الخصوصية مشكلة خلقية ، لأنها مرتبطة بالعلاقات الشخصية ، ومبادئ السلوك الشخصى . وتشير النزعة الطبيعية فى رأى كثير من الفلاسفة إلى أية نظرية خلقية تعتبر الأخلاق موضوعا يمكن وصفه واقعيا . ومن الواضح أن الحقائق المزعومة للطبيعة الإنسانية تندرج تحت هذا المفهوم . ويندرج تحت هذا المفهوم أيضا مدى واسع من الحقائق الأخرى ، التى تتعلق بالبقاء الإنسانى والتماسك الاجتماعى والصحة البدنية والعقلية وغيرها من الحقائق عن الإنسان والمجتمع . ويتمثل الاعتراض الفلسفى على هذا اللون من التفكير فيما أسماه مور Moore (1968) بالمغالطة الطبيعية التى تفيد استمداد ما ينبغى من بيانات واقعية . فلا يمكن فى رأيه أن تستمد من حقيقة أن الساديين يحبون إنزال الألم بغيرهم ضرورة السماح لهم بإيذائهم ، ومعنى ذلك أن هناك فجوة منطقية بين قضايا الواقع وقضايا القيمة ، وأن المجال الخلقى لا يمكن تحديده بالرجوع إلى الحقائق الخاصة بالإنسان وعالمه ، وأن محتوى الأخلاق لا يمكن اكتشافه عن طريق دراسة الواقع .
ومن أوضح الأمثلة على الاتجاهات نحو التربية الخلقية التى تعتمد على افتراضات طبيعية نظرية روسو Rousseau فى كتابه الشهير إميل Emile (1961) ، حيث اعتمدت نصائحه التربوية على الاعتقاد فى الخيرية النظرية للطبيعة الإنسانية . يقول روسو (ص 56) : " دعنا نقولها مبدءا غير منازع : إن الدوافع الأولية للطبيعة الإنسانية دائما صحيحة " وفيما يتعلق بتعليم الأخلاق تميل النظريات الطبيعية إلى تقديم رؤية للتربية الخلقية باعتبارها عملية للنمو الداخلى وليست شيئا مفروضا من الخارج . وهكذا يؤكد روسو الحاجة إلى التربية السلبية فى المراحل المبكرة من الطفولة ، فلا يقدم للطفل تعليمات خلقية ولا يوقع عليه عقاب . وبالمثل يؤكد بياجيه Piaget (1932) وكولبرج Kolberg (1976) أن أفضل اتجاه للتأثير فى السلوك الخلقى يتمثل فى التركيز على مراحل النمو ، وترك الأطفال يحددون قيمهم ، وينمون أخلاقهم على نحو يوافق مراحل نموهم ، دون تدخل مباشر من الآباء أو المعلمين . ويقتصر عمل الآباء والمعلمين فى رأيهما على توفير فرص الاكتشاف الشخصى للقيم عن طريق المناقشات وحل المشكلات . وفى محاولته لتوفير بيئة تعليمية فى المدارس تعتمد على الطريقة الديمقراطية فى إقرار القيم دعا كولبرج (نقلا عن بور Power وزملائه ، 1989) إلى فكرة المجتمع المحلى العادل Just Community ، وتتمثل الفكرة الأساسية للمجتمع المحلى العادل فى إتاحة الفرصة أمام التلاميذ لممارسة الحياة الديمقراطية ، وتزويدهم بالإحساس وبالإنتماء إلى جماعة اجتماعية ، ومناقشة مختلف القضايا المرتبطة بالنظام والحياة داخل المدرسة ، وصياغة القواعد الحاكمة للسلوك وفرضها على أنفسهم ، وحسم جميع المشكلات عن طريق المناقشات .
2- الاحتكام إلى العقل :
اعتقد كثير من الفلاسفة أن الأخلاق أمر عقلى ، وأن التبرير المعقول يؤلف جوهرها الأساسى ، واستنتج بعضهم طائفة من المبادئ المحددة يعتقدون أنها تؤلف معنى الأخلاق نتيجة لطابعها العقلانى .
ويعتبر بيترز Peters (1966) أشهر ممثل لهؤلاء الفلاسفة . ونقطة البداية فى فلسفة بيترز هى ما أسماه بنشاط العقل العملى الذى يوجب على الفرد أن يسأل : ماذا ينبغى أن أفعل ؟ يقول بيترز (ص 121) : " إن أمام الفرد بدائل متاحة وهو يبحث عن أسباب اختياره لبديل دون سواه ، فإذا كان الشخص يناقش نفسه أو يناقش غيره جادا فيما يتعلق بما ينبغى له أن يفعل ، فإنه يقبل أهمية البحث عن أسباب الفعل ، ويعترف ضمنا بصدق مبادئ خلقية معينة " ويمكن فى رأى بيترز استمداد المبادئ أو الأحكام الخلقية بهذه الطريقة إذ يمكن تأسيس مبدأ العدل بالبحث عن الأسباب التى تحتم على الفرد معاملة غيره بطريقة دون أخرى ، وبالتالى يسلم ضمنا بأن صورا مختلفة من المعاملة يمكن تبريرها إذا كان هناك عوامل موقفية مختلفة ، فالعدل يعنى معاملة الآخرين بنفس الطريقة ما لم يكن بينهم فروق ذات صلة بموضوع المعاملة . والبحث عن هذه الفروق جزء مكمل للتفكير الجاد فيما ينبغى فعله ، وباستخدام حجج مماثلة استمد بيترز مبادئ قول الصدق ، والحرية ، ومراعاة مصالح الآخرين وغيرها .
ومما ينبغى ملاحظته أن المبادئ التى قدمها بيترز عامة ، ولا تقدم إجابات صريحة عن المشكلات الخاصة بما ينبغى أن يفعله الشخص فى مواقف محددة . إن مبدأ العدل مثلا لا يخبر معلما كيف يعامل التلاميذ المختلفين قدرة وعمرا وخلفية اجتماعية ، فضلا عن إمكانية تعارض بعض المبادئ . فقد لا تتناسب مراعاة مشاعر الآخرين مع قول الصدق ، وكثيرا ما يمكن أن يكون بعض الناس خلقيين دون أن يكونوا على بينة من الأشياء المناسبة خلقيا لتقرير ما ينبغى فعله . إن نظرية بيترز تستثير مشكلات خطيرة فيما يتعلق بالتربية الخلقية لأنها تفترض فرداً خلقيا يسأل جادا أسئلة خلقية ، ويتبع قواعد اللعبة الخلقية التى يحددها بيترز . ولكن كيف يتعلم الأطفال أن يلعبوا هذه اللعبة ؟ إن بيترز يعتقد أن الأخلاق تعتمد على مجموعة من المبادئ المستمدة عقليا ويمكن تبريرها ، ومن ثم تكون وظيفة التربية الخلقية إعانة الأطفال على تبنى هذه المبادئ بطريقة عقلية . يقول بيترز Peters (1974، ص ص 253-254) : " إن اهتمامى موجه إلى تنمية ذلك النمط المستقل من الخلق الذى يتبع القواعد بطريقة عقلية ... وليس على الفرد أن يعرف ما هو صحيح أو خطأ بصفة عامة ، بل عليه أن يذهب أبعد مما يسميه أفلاطون بالرأى الصائب ، بحيث يعرف لماذا تكون مثل تلك القواعد صحيحة أو خاطئة ، ويستطيع أن ينقح القواعد ، ويصوغ قواعد جديدة فى ضوء المعرفة الجديدة والظروف الجديدة " إننا لا نستطيع أن نتوقع من الأطفال الصغار أن يبلغوا إلى ذلك المستوى لأنهم ليسوا شخصيات عاقلة ومستقلة وقادرة على معرفة أن الأسباب يمكن تبريرها ، وأن القواعد يمكن مراجعتها وتعديلها .
والشىء الجدير بالملاحظة أن بيترز نفسه يعترف بهذا (ص271) ويعترف أن تكوين العادات يلعب دوراً أساسياً فى النمو الخلقى للصغار حيث يقول (ص 272) : " إنهم يستطيعون دخول قصر العقل عن طريق بهو العادة والتقليد " الأمر الذى يتعارض مع اتجاهه العقلى بصفة عامة . ولا يمكن حسم هذا التعارض فى موقفه إلا بالتسليم بأنه يقبل تعليم صغار الأطفال عن طريق تكوين العادات وتعليمهم مجموعة من القواعد أوالمبادئ الأساسية حتى يصلوا إلى السن التى يستطيعون فيها التفكير بطريقة نقدية فيما يتعلق بكيفية تبرير تلك القواعد .
3- الاحتكام إلى السعادة :
تتخذ المبادئ الخلقية التى تستند إلى فكرة السعادة البشرية صوراً متعددة منها اللذة ، والمنفعة ، وإشباع الحاجات ، ورعاية المصالح العامة إلخ . وتشترك تلك التغيرات فى خاصيتين هما أن مصطلح خلقى يشير إلى أمور تتعلق بالسعادة الإنسانية ، وأنها تؤكد وجود حقائق غير منازعة تتعلق بالسعادة الإنسانية يمكن الاحتكام إليها .
يتساءل ورنوك Warnock (1967، ص55) : " ألا ينبغى أن يفترض كل شخص يقدم مبدأ خلقيا أن رعاية المبدأ تؤدى إلى بعض الخير ، وأن خرقه يؤدى إلى بعض الأذى ؟" إن هذا الوصف للأخلاق يبدو مقنعا لأنه موافق لافتراضاتنا العامة ولمعرفتنا عن الخلقى . ولكن هل يمكن تعريف الأخلاق فى ضوء السعادة الإنسانية؟ حقا إن من غير المعقول أن نقول أن الأخلاق لا ترتبط بالخير أو الشر الإنسانى ، ولكن هل الخير والشر الإنسانيان هما كل الأمور التى يمكن أن يكون لها علاقة بالأخلاق ؟ لماذا نعنى بسعادة الإنسان فقط ولا نعنى بسعادة الكائنات غير الإنسانية ؟ أليس هناك مشكلات خلقية تتعلق بمعاملة الحيوانات وما ينبغى أن نفعله أو لا نفعله إزاء البيئة ، على الرغم من أن هذه القضايا لا تتعلق بالسعادة الإنسانية بما هى كذلك ؟ إن تحديد الأخلاق على هذا النحو يتجاهل أمثلة كثيرة للمبادئ الخلقية ذات الارتباط بالسعادة الإنسانية ، بل ويمكن أن يؤدى إلى تناقص كبير منها . فقد يكون قول الصدق أو المحافظة على العهد معتقدات خلقية حتى ولو لم يوجد شخص واحد يستفيد منها أو يسعد بها ، كما أن العدالة لا تكون على الدوام وصفة مضمونة للسعادة . إن مجال الأخلاق أوسع من مجال السعادة الإنسانية ، ولا يوجد اتفاق عام على ما يؤلف الخير أو الشر الإنسانيين ، لأن الخير الإنسانى ليس مستقلا عن المعتقدات الخلقية للناس ، وبالتالى لا يمكن الاقتصار على مبدأ خلقى واحد فى تحديد معنى الخلقى مثل السعادة أو مراعاة مشاعر الآخرين ، ولقد أخطأ ماكفيل Mc Phail وزملاؤه (1972) فى إعداده لبرنامج تدريبى يستهدف تنمية أسلوب حياة للأطفال يراعى مشاعر الآخرين فقط . إن هناك مجالات أخرى للأخلاق أو التربية الخلقية يمكن أن تعتمد على مبادئ العدل والشرف والتعامل مع الشخص وتنمية التراث وإنكار الذات إلخ . فإذا لم يقدر معلم هذه المبادئ بنفس القدر الذى يقدر به مراعاة مشاعر الآخرين فليس هناك تبرير لتقديم برنامج للتربية الخلقية يركز على المبدأ الوحيد المفضل ويستبعد غيره من المبادئ . إن مجال الأخلاق واسع ويجب أن تتعدد المبادئ الخلقية التى تعنى بها التربية الخلقية لتوافق المناسبات المختلفة التى يصادفها الإنسان فى حياته وعالمه .
4- الاحتكام إلى السلطة :
يؤمن كثير من الفلاسفة المحدثين بأن الأخلاق لا توصف فى ضوء القواعد والمبادئ التى يستمد صدقها من الاحتكام كلية إلى السلطة الخارجية لأن الأشياء لا يمكن أن تكون صحيحة خلقيا لمجرد أن شخصا قال أنها كذلك ، ولأن درجة من حرية الاختيار وممارسة الحكم المستقل ضرورية لما يشير إليه مفهوم الفرد الخلقى . ويذهب ستارات Starratt (1994) إلى أن الحرية والاستقلال أمران لازمان للشخص الخلقى ، حيث يقول (ص 31) : " الشخص الخلقى مستقل يسلك وفقا لما يراه صوابا أو مناسبا للموقف ، ويتعارض استقلاله مع ما يمليه عليه الغير أو الشعور بالخوف من ذوى السلطة . فاستقلال الشخص يعنى إحساسه بالاختيار الشخصى والشعور بالمسئولية عن أفعاله والرغبة فى معارضة الآخرين فى بعض الأحيان أو الظروف". ولكن لا ينبغى التطرف إلى الحد الذى يذهب إليه سارتر ، الذى يتمثل فى اختراع الشخص لأخلاقه دون معونة أو تأثير من أى إرشاد خارجى . إن الحجج الموجهة ضد تصورات الأخلاق القائمة على السلطة تصدق فقط على تلك الحالات التى يحتكم فيها إلى السلطة دون تبرير . تقول بائير Baier (1973، ص 108) : " إذا اعتقدت أن شرب الخمر أو التدخين خطأ لأن والدى قال ذلك محتكماً فقط إلى الواقعة ، فإن اعتقادى يكون من النوع الخرافى ولا يمكن أن يعتبر حكما خلقيا . أما إذا اعتقدت أن الشرب أو التدخين خطأ لأن والدى بين لى المخاطر والمشكلات التى يمكن أن تترتب على هذه الأنشطة ، أو لأننى أعجب بأسلوب حياة والدى فإن اعتقادى لا يكون معتمدا على مجرد واقعة ولكن على اعتبارات أخرى لفت والدى انتباهى لها وقدرتها بنفسى مستقبلا " . إننا لا نستطيع أن نرفض السلطة الخارجية كلية لأن أصحابها يمكن أن يكونوا مرشدين وبالتالى نقدر خصائصهم ونراعى نصحهم وإرشادهم . إن الاعتماد على الصور المتطرفة للسلطة التى تضع القوانين المتصلبة وتوجب على الأطفال اتباعها دون مناقشة لا يعتبر أمرا خلقيا ، لأن مبادئ وأفكار ونصائح ذوى السلطة تحتاج إلى تبرير خلقى .
إن بياجيه Piaget (1932) وكولبرج Kohlberg (1976) يريان أن الأطفال يعتبرون القواعد الصادرة علن السلطة ذات خاصية مقدسة – الأمر الذى يقلل الحاجة إلى مزيد من التبرير . فإذا كان بياجيه وكولبرج على حق فإن الاحتكام إلى السلطة يكون أمرا لا يمكن تجنبه فى التعامل مع الصغار . فإذا رغبنا فى أن يمارس الأطفال حكمهم المستقل فإن تقديم تبريرات بسيطة للقواعد يمكن أن يشجعهم على التفكير الخلقى الأكثر عقلانية . إننا لا نستطيع الاستغناء عن الإرشاد السلطوى لأنه جزء ضرورى من التعليم الخلقى وليس متعارضا معه . يقول بيترز Peters (1966) إن التعليم نفسه ممارسة للسلطة . وبالتالى لا يمكن أن يكون تعليم الأخلاق أمرا غير سلطوى ولكن الاحتكام إلى السلطة فقط يكون غير مقبول . هذا فضلا عن أن مفهوم الأخلاقى لا يستقل عن مفهوم الضمير الذى هو صورة مستدخلة للسلطة الخارجية فيما يذهب إليه فرويد ، إن هناك صورتين للضمير – هما الضمير بالمعنى الفرويدى غير العقلانى والضمير العقلانى الذى يستخدم فى الحكم على الأفعال الماضية والحاضرة والمستقبلة ولا يمكن الاستغناء عنه فى التربية الخلقية ، لأنه يشعر الصغار بالولاء لبعض المبادئ والندم على ارتكاب الأخطاء . وفيما يلى نناقش بعض أساليب التعليم الخلقى الناشئة عن بعض النظريات الخلقية التى راجعناها آنفا توطئة للحكم عليها ونقدها وفقا للمعايير الخلقية المقررة ، التى يمكن استمدادها من المراجعات السابقة .
2- أساليب التنمية الخلقية :
استطاع بعض المربين تقديم طرق وأساليب للتنمية الخلقية اعتمادا على فهمهم أو تفضيلهم لبعض النظريات الخلقية وأساليب تعديل السلوك . ومن أشهر تلك الأساليب أسلوب توضيح القيم وأسلوب التفكير الخلقى . وفيما يلى عرض ونقد للاقتراحات الأساسية لهذين الأسلوبين .
أ – أسلوب توضيح القيم :
قدم راثز Raths وزملاؤه (1978) أسلوبا للتنمية الخلقية يعتمد على طريقة كارل روجز فى الإرشاد النفسى عرف باسم توضيح القيم ، وتقوم هذه الطريقة على تأمل الطلبة وتفكيرهم فى بعض القضايا أو المشكلات الخلقية دون تدخل من جانب المعلمين أو فرض قيمهم عليهم ، لأن القيم فى رأيهم ذاتية ونسبية وشخصية ، الأمر الذى يوجب فى رأيهم الالتزام بالحيدة والاقتصار على توضيح القيم دون فرض أو إملاء أو بث عقدى أو خلقى . ويقتصر عمل المعلمين على إتاحة الفرصة أمام الطلبة لممارسة التفكير النقدى وتحليل القيم وتوضيحها .
ولقد أورد هاوارد فجلر Figler (1979) أمثلة للتدريب على توضيح القيم نذكر منها ما يلى :
1- قصص تحكى أو تقرأ على الطلبة ، ويطلب إليهم ترتيب شخصياتها وفقا لمدى موافقتها لقيم الطلبة . ويقسم الطلبة إلى جماعات لمناقشة التبريرات التى يقدمها زملاؤهم لتفضيل شخصيات معينة .
2- يوميات يكتبها الطلبة عن حياتهم الشخصية والخلقية والدينية والاجتماعية يختار منها بعض القضايا التى تناقش أمام الطلبة ويقتصر عمل المعلم على تقديم أسئلة توضيحية .
3- عرض بعض المواقف أو القضايا الخلقية على الطلبة لمعرفة استجابتهم لها مثل موقف الطالب الذى رافق بنتا أخبرته أنه والد طفلها المتوقع ، وأن عليه الزواج منها ، فكيف يتصرف الطالب وهو لا يحبها ولا يستطيع تأليف أسرة ؟
ويذكر فجلر Figler (1979، ص 212) أن الآباء يعترضون على طريقة توضيح القيم لأنها تعتبر القيم أمورا شخصية وذاتية ونسبية ، وتهدد خصوصية الطالب وخصوصية أسرته . ويوصى فجلر (ص212) " باستبعاد طريقة توضيح القيم من المدارس وغيرها من المؤسسات العامة وشبه العامة " .
ويوافق الباحثان على مشروعية بعض تلك الانتقادات ، ويناقشان دعوى الحيادية والنسبية باعتبارهما أهم الافتراضات الأساسية لأسلوب توضيح القيم .
- دعوى الحيادية :
يدعى أنصار توضيح القيم أنهم غير معنيين بتدريس قيم معينة ولا يفرضون قيمهم على الطلبة أو يغرونهم بالاعتقاد فى قيم معينة ، لأنهم يعتقدون أن القيم ذاتية ونسبية وشخصية ، وبالتالى لا يمكن فى رأيهم معرفة ما إذا كانت قيمة صحيحة أو خاطئة ، أو أن قيمة أجدر بالعناية من غيرها . إن هذا الموقف مقترح فلسفيا لأنه مجرد موقف واحد من القيم وليس كل المواقف التى يمكن اتخاذه إزاءها ، إنهم يتخذون هذا الموقف من القيم ولا يناقشون صحته أو أفضليته على غيره من المواقف الممكنة أو البديلة .
وبالرغم من ادعائهم للحياد فإن موقفهم من القيم غير محايد ، إنهم يحملون الطالب على الاعتقاد فى أن القيم ذاتية وشخصية ونسبية، وهذا يتعارض مع ما يدعونه من حيادية . واعتقادهم فى ذاتية القيم لا يوافقهم عليه كثير من الفلاسفة ورجال الدين وغيرهم ممن يعتقدون أن القيم موضوعية ومطلقة ، ويمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة . وسؤال الطفل عن القيم واعتباره المصدر الوحيد لها أو المرجع فى الحكم عليها لا يحدث فى أى مجال علمى أو تعليمى . إننا لا نسأل الأطفال عن رأيهم فيما إذا كانت الأرض كروية أو مسطحة وما إذا كان قانون الطفو أو الجاذبية صحيحا أو خاطئا . إننا ننقل إليهم هذه الحقائق وندلل على صحتها ونطلب إليهم الاعتقاد فيها ، والتصرف بمقتضاها .
وطالما أن أسلوب توضيح القيم يسوى بين القيم ولا يميز بينها فإنه يوحد بين القيم والتفضيلات الشخصية ومن ثم يكون نظرية فى التفضيل الشخصى ، فإن صح هذا الاستنتاج فلا تكون العدالة أو الكرامة الإنسانية أو الحرية أو التسامح قيما وإنما تكون مجرد تفضيلات شخصية لبعض الناس . ولا يقدم أسلوب توضيح القيم وسيلة لمعرفة ما إذا كانت بعض التفضيلات خير من غيرها .
- نسبية القيم :
أكد راثز Raths وزملاؤه (1978، ص ص viii-ix) أن "للجماعات المختلفة قيما مختلفة ، وأن الناس ينبغى أن يكونوا أحراراً فى اختيار قيمهم ، ويجب احترام موقفهم ، ولا يوجد اليوم دين واحد صحيح ولا أخلاق واحدة صحيحة ولا دستور واحد صحيح ، إن لنا اختياراتنا وتفضيلاتنا " . إننا لا نطلب البلوغ إلى اليقين المطلق فى الأمور العلمية ولا ينبغى أن نطلبه فى الأخلاق ، ويكفى أن نقول أن هناك أسبابا وجيهة تحملنا على الاعتقاد فى أن قيمة مقبولة حتى نأخذ بها ونسلك بمقتضاها كما هو الحال فى جميع الأمور العلمية . لقد بينا أن أنصار توضيح القيم يعتبرون القيم تفضيلات شخصية لا يمكن الحكم عليها بالصواب أو الخطأ لأن غيرهم يمكن أن يفضلوا عكسها، وبالتالى لا نستطيع أن نرجح بديلا على بديل أو تفضيلا على تفضيل. ولم يقدم راثز وزملاؤه ما يساعدنا فى هذا السياق ، وبالتالى لا يكون موقفهم أفضل من موقف غيرهم إذا كان لهم تفضيلات مختلفة .
وإذا عجز أنصار توضيح القيم عن المفاضلة بين مختلف التفضيلات يكون موقفهم من القيم نوعا من الإملاء . إنهم لم يدافعوا عن اتجاههم وإنما سلموا به دون تبرير . ويمكن أن يواجه معتقدهم فى حرية الإنسان فى اختيار قيمة بتحديات كثيرة من رجال الدين والماركسيين والفرويديين . فالماركسيون والفرويديون ينشدون حرية الإنسان ، وتمثل الحرية لدى بعض رجال الدين فى إسلام القياد إلى الرب ، هذا فضلا عن أن الأسلوب الذى يعتمد على التفضيلات الشخصية يكون قريبا من المذاهب اللذية ، التى ناقشناها فى بعض النظريات الأخلاقية ، وبالتالى يصدق عليه ما يصدق عليها من اعتراضات فلسفية .
ب- أسلوب التفكير الخلقى :
يتمثل هدف التنمية الخلقية عند كولبرج Kohlberg (1981) فى تشجيع الطلبة على النمو والانتقال من المراحل الأدنى إلى المراحل الأعلى للتفكير الخلقى عن طريق إتاحة الفرص لممارسة الحياة الديمقراطية ومناقشة مختلف القضايا والمشكلات المرتبطة بالحياة والنظام داخل المدرسة . ويتمثل عمل المعلمين فى رأيه فى الاستماع إلى مناقشات الطلبة وإعانتهم على الانتقال إلى المراحل الأعلى للتفكير والسلوك ، وفقا لما يجمع عليه أعضاء المجتمع المدرسى . وبناء على هذا الاتجاه قدم كولبرج طريقة فى التنمية الخلقية تعرف بأسلوب التفكير الخلقى يقدم فيها إلى الطلبة طائفة من المشاكل الخلقية ويطلب إليهم التفكير فيها واتخاذ قرار بشأنها .
ومن أشهر تلك القضايا أو المشكلات الخلقية ما يتعلق بقارب النجاة . وفى هذا التدريب يطلب المعلم إلى الطلبة تخيل جماعة من الناس - موسيقى ، ولاعب كرة ، وشخص عجوز - يستقلون قاربا ، وتهب عليهم ريح عاتية ، ولا نجاة لهم إلا بتخفيف حمولة القارب ، ويسألهم عن نوع الأشخاص الذين يتخففون منهم لإنقاذ القارب . وغالبا ما يستقر الطلبة على التخلص من الشخص العجوز ، لأنهم لم يتعلموا احترام كبار السن .
وفى تدريب آخر تشتمل حمولة القارب على معلم وكلب ، ويميل الطلبة إلى التخلص من المعلم والاحتفاظ بالكلب . إن أسلوب التفكير الخلقى الذى قدمه كولبرج طريقة لاتخاذ القرار والمفاضلة بين البدائل . وتتمثل مشكلته الأساسية فى حفز الطلبة على النظر إلى الجانب النفعى من الحياة – بعض الأشخاص يمكن التخلص منهم تحقيقا للنجاة ، والاعتقاد خطأ فى أن الأخلاق مجرد مشكلات لا محل فيها لمسائل الصواب والخطأ . هذا فضلا عن أن أسلوب التفكير الخلقى لكولبرج يحمل الطلبة على التفكير فى قيم وفضائل لم يكتسبوها أصلا ، ولم يعرفوا عنها إلا القليل ، وقد يدافع البعض عن أسلوب التفكير الخلقى بقولهم إن سقراط اتبع هذه الطريقة فى التعليم ، فهو لم يحاضر بل كان يحاور – يطرح المشكلات ويوجه الأسئلة التى تحفز على البحث والتفكير . ومما ينبغى ذكره أن سقراط لم يتبع هذه الطريقة مع الصغار وإنما كان يتبعها مع الكبار الذين تجاوزوا الثلاثين من العمر . إن طريقة كولبرج لا تعلم الأخلاق وإنما تعلم الحجاج واللجاج والجدل . لقد أخطأ كولبرج غير مرة – أخطأ فى اعتقاده أن التفكير الخلقى يؤدى إلى التربية الخلقية ، وأخطأ فى اعتقاده أن الأطفال يستطيعون البلوغ إلى مبادئ خلقية عامة عن طريق التفكير غير الموجه ، وأخطأ فى اعتقاده أن اكتشاف الطفل للمبادئ الخلقية يحمله على السلوك بمقتضاها . إن التربية الخلقية الحقة تحتاج إلى ثلاثة أمور : تعليم الحقائق ، وتعليم الإجراءات ، وتعليم السلوك .









البرنامج المقترح للتنمية الخلقية
أ – المنطلقات :
أخذنا من مراجعة أساليب تعديل السلوك والنظريات الخلقية أكثر من مجرد مسح لما قد يقوله بعض الفلاسفة وعلماء النفس عن معنى الأخلاق ، وتعديل السلوك ، ورأينا أن التعريفات المختلفة لما هو خلقى ، وطبيعة السلوك المراد تعديله تؤدى إلى أوصاف مختلفة لما ينبغى لنا فعله ، وكيف أن اتجاهات معينة نحو التربية الخلقية أو تعديل السلوك تؤدى إلى افتراضات عامة عن الأخلاق ، وكيفية التعامل مع الأنواع المختلفة من السلوك . ومما لاشك فيه أن هناك مخاطر تترتب على الإخفاق فى معرفة التنوع الهائل فى وجهات النظر ، أو التسليم بعدم وجود مشكلة فى معنى الأخلاق ، أو عدم الفطنة إلى الاعتراضات التى يمكن أن توجه إلى تفسير واحد للأخلاق ، أو استخدام أسلوب واحد لتعديل السلوك . ومع أخذ تلك المخاطر فى الاعتبار والتسليم بتعقد المشكلة الخلقية ، تتمثل استراتيجيتنا فى الاعتماد على مختارات من المادة التى أوردنا فى الأجزاء السابقة من البحث لتقديم بعض الإجابات المؤقتة عن الأسئلة التى لا يمكن إغفالها ، للتخفيف من حدة المشكلات السلوكية التى تصادفنا فى منازلنا ، ومدارسنا ، وحياتنا العامة ، مثل ماذا ينبغى أن نعلم عن الأخلاق ، وكيف ينبغى لنا تعليمه .
وقبل أن نقرر ما ينبغى تعليمه يجب أولا أن نحسم قضية الشكل فى مقابل المضمون ، لأن موضوع الأخلاق يجب أن يكشف عما يميز الأخلاق نفسها . فهل نعلم طريقة للتفكير الخلقى أو طائفة من القواعد والمبادئ ؟ والمشكلة التى تصادفنا تتمثل فى أن بعض تفسيرات الأخلاق تقدم خصائص يمكن أن توجد فى المجال الخلقى وغير الخلقى كما لاحظنا فى النظرية الإرشادية والنظرية الاستدلالية. وتركز تفسيرات أخرى على عناصر ليست مشتركة بين جميع جوانب الأخلاق مثل المبادئ التى تتعلق بالسعادة الإنسانية . إن هناك تداخلا كبيرا بين الشكل والمضمون فى بعض النظريات الخلقية وعلى سبيل المثال ، هل يمكن اعتبار الاحتكام إلى السلطة أو السعادة الإنسانية شكلاً للتبرير الخلقى أو تحديداً لمحتوى خلقى ؟ إن لشكل الأخلاق ومضمونها جوانب متعددة تستعصى على الحصر ، وكل ما نستطيع عمله هو تحديد الخصائص العامة وتعليمها للناشئة لتثقيفهم خلقيا وتبصيرهم بالمدى الواسع للفهم الخلقى . فما الخصائص العامة للأخلاق ؟
ب- الأهـداف :
حدد ستارات Starrat (1994 ، ص ص 31-32) ثلاث خصائص للشخص الخلقى باعتبارها أهدافا عامة للتربية الخلقية ، وهى الاستدلال ، والارتباط ، وتجاوز الذات .
فالشخص الخلقى فى رأيه يجب أن يكون مستقلا يسلك وفقا لما يراه صوابا أو مناسبا للموقف . ويتعارض هذا الاستقلال مع ما عليه الغير ، فالاستقلال يعنى الاختيار الشخصى والشعور بالمسئولية عن الأفعال ، على رغم معارضة الآخرين . يقول ستارات (ص31) : "إن على الإنسان أن يبتعد عن والديه وأقرانه ليكون ذاتيته ويحقق النضوج . فالطيور تدفع أبناءها بعيدا عن العش لتتعلم الدفاع عن نفسها ، وتدبير أمورها ". غير أنه يرى أن الاستقلال لا يتحقق إلا فى إطار اجتماعى ، فلا معنى لاستقلال الفرد إذا كان منعزلا .
والارتباط هو الشرط الثانى الذى يقدمه ستارات ، فالإنسان الخلقى فى رأيه مرتبط ، ولا يستطيع التعبير عن استقلاله إلا فى إطار اجتماعى . والإطار الاجتماعى يخلق الفرص ويضع القيود التى ينبغى الإفادة منها أو التقيد بها . يقول ستارات (ص 34) : " إن الأشخاص الخلقيين يعبرون عن ارتباطهم بثقافتهم ... ولكن لا ينبغى أن يكونوا عبيدا لها " وتتمثل الخاصية الثالثة للشخص الخلقى فى تجاوز الذات ، والعناية بالآخرين كالطبيب أو المعلم الذى يتفانى فى رعاية مصالح عملائه حتى ولو كان ذلك على حساب راحته .
إن تأكيد ستارات على خصائص الشخص الخلقى يفيد أن القرار الخلقى ينبغى أن يتخذ بحرية ، ويكون نتيجة لحكم مستقل ، وتراعى فيه مصلحة الآخرين ، ويسلك بمقتضاه فى جميع المواقف المماثلة . فإذا شهد شخص حالة لقيادة خطرة ، وكان عليه أن يقرر ما إذا كان يبلغ الشرطة عن السائق ، فإن قراره لا يكون خلقيا إذا كان مجرد استجابة لأمر أبيه أو أصدقائه ، لأن عليه أن يفكر فى النتائج المحتملة التى تترتب على قراره وكيف تؤثر فى الآخرين . إن عليه أن يبحث عن الأسباب التى تبرر قراره ، ويجب أن يكون قراره عاما وغير متحيز . ويجب أن تكون الأسباب التى يقدمها من النوع الذى يمكن التعبير عنه فى صورة مبدأ عام أو قاعدة يكون مستعدا لتطبيقها فى جميع المواقف المماثلة . فإذا قرر الإبلاغ عن السائقين الخطرين فإنه يقبل التبليغ عن نفسه وعن أصدقائه وعن أى شخص آخر يقود سيارته على نحو خطر . وإذا اتخذ قراره على هذا النحو فإن عليه أن يسلك بمقتضاه .
إننا لا ندعى البلوغ إلى جميع خصائص الشخص الخلقى ، ولكن التخطيط السابق يبين الخصائص العامة الأساسية التى يمكن استمدادها وتأييدها من النظريات السابقة ، ويمكن اعتبارها أهدافا مقبولة للتربية الخلقية . والسؤال الذى يطرح نفسه الآن هو كيف يمكن البلوغ إلى تلك الأهداف ؟
جـ - الوسائل :
توجب الإجابة عن السؤال السابق الاعتماد على ثلاثة أنواع من التعليم هى : تعليم الحقائق ، وتعليم الإجراءات ، وتعليم السلوك . وفيما يلى مناقشة لكل مكون من المكونات السابقة .
1- تعليم الحقائق :
إن تعليم الناشئة أن أشياء معينة مرغوبة أو غير مرغوبة مكون أساسى للتربية الخلقية ، لأن الإنسان لا يستطيع أن يتخذ قرارا خلقيا أم غير خلقى دون الاعتماد على معلومات واقعية . ولعل ذلك يتضح على أفضل نحو من الأمثلة العديدة التى قدمها هربرت سيمون Simon (1976) فى كتابه المعنون " بالسلوك الإدارى " .
وليس من اليسير فى جميع الأحوال تحديد المعلومات الضرورية لاتخاذ جميع القرارات الخلقية ، لأن المواقف المختلفة تتطلب معارف مختلفة ، وكل ما نستطيع أن نقدمه للنشء هو مجموعة من المعارف العامة التى نتوقع ارتباطها بمعظم المواقف الخلقية التى يحتمل أن يجدوا أنفسهم فيها مثل متطلبات الأمن فى البيت والمدرسة والطريق العام ، وبعض حقائق علوم النفس والاجتماع التى تفيد فى معرفة الطبيعة الإنسانية وخصائص النمو ومراحله ومشاعر الناس وردود أفعالهم وخصائص النمو الخلقى على النحو الذى يوضحه بياجيه وكولبرج وغيرهما من الحقائق التى تؤلف نقطة بداية لبرنامج تعليمى مخطط .
والسؤال الذى ينبغى أن نسأل بخصوص المعرفة الخلقية التى نقدمها للناشئة هو هل نعلم الناشئة طائفة من المبادئ والقيم والقواعد الخلقية أو نعلمهم طريقة للتأمل والتفكير الخلقى ؟ إن هناك خلافا كبيرا بين المربين الذين يرغبون فى تدريب الناشئة على المبادئ والقيم والعادات الخلقية والذين يرغبون فى تنمية قدرتهم على التفكير الخلقى . فالمحافظون يخشون من إفساد التفكير الخلقى للاستجابة الخلقية وتقليل احترام السلطة ، والليبراليون يخشون مما يترتب على تعليم المبادئ والقيم والعادات الخلقية من تبعية وافتقار للقدرة على نقد التقاليد الثقافية . ونحن نعتقد فى خطأ الاتجاهين لأن التفكير والعادة مصدران أساسيان للسلوك الخلقى ، ولا ينبغى إغفال أحدهما . حقا إن العادة والتفكير نظامان نفسيان متميزان : فالتفكير ينمو على مستوى الوعى ، والعادة تنمو على مستوى السلوك ، التفكير يعتمد على أفكار سابقة وراهنة والعادة تعتمد على الخبرة المباشرة ، التفكير الخلقى مرتبط بالكفاءة الفعلية والعادات الخلقية مرتبطة بأنظمة الانعكاسات الإنفعالية والسلوكية . وبرغم اختلاف النظامين ينبغى الجمع بينهما وتحقيق التآزر بين التفكير الخلقى والسلوك تحقيقا للتنمية الخلقية الصحيحة . إن الجمع بين هذين النظامين يعتمد على التطبيع الاجتماعى فى البيت والمدرسة وجماعة الأقران والمجتمع المحلى بصفة عامة ، وبالتالى يجب معرفة ثقافة تلك الجماعات ومبادئها ومعاييرها ونوع القيم التى يتوقعها الكبار من الصغار فى تلك المؤسسات .
حقا إن هناك اختلافات فى ثقافات تلك المؤسسات وهذا يجعل الاتفاق على ما ينبغى تعليمه منها صعبا ، ولكنه غير مستعمل . فلقد استطاع هوراس مان Mann (1937) تأسيس نظام خلقى عام غير طائفى اعتبر أساسا للحياة العامة للأمة الأمريكية . ولقد قرر وليام بنيت Bennett (1989، ص 104) ، بناء على زيارته لمئات المدارس الأمريكية ، أن هناك اتفاقا على الطابع الخلقى الجيد ، الذى يتألف من مجموعة من القيم أو المعايير المشتركة أطلق عليها "ميثاق الشباب" واستطاعت متيشل بوربا Borba (2001) تقديم سبع قيم محورية لا تستثير نزاعاً بين مختلف الطوائف أو الجماعات فى المجتمع الأمريكى ، لتعليم السلوك الخلقى للأطفال ، مثل التعاطف والاحترام والعدالة والتسامح وحسن معاملة الآخرين ، ويمكن البلوغ إلى طائفة من القيم الخلقية التى يمكن تعليمها للناشئة عن طريق عقد لقاءات بين الآباء والمعلمين والأخصائيين والتلاميذ على النحو الذى نبينه فيما بعد .
2- تعليم الإجراءات :
من أهم خصائص التفكير الخلقى الحاجة إلى درجة معينة من الحكم المستقل والاختيار الحر ، اللذين يمارسان فى اتخاذ القرارات الخلقية . ويتمثل العامل الحاسم فى تنمية هذا المكون فى اتجاهات الآباء والمعلمين باعتبارهم نماذج يسترشد بها الصغار ، وبالتالى ينبغى أن يتحلوا بالاتجاهات الضرورية التى تعينهم على الاضطلاع بهذا الدور ، كتلك الاتجاهات التى أكد أهميتها كارل روجرز وجلاسر وجولتشتين وغيرهم من أصحاب نظريات تعديل السلوك . ومن أهم الاتجاهات التى ينبغى للآباء والمعلمين التحلى بها دفء العاطفة ، ورقة المشاعر ، وسعة الصدر والمعاضدة الوجدانية ، والاستماع النقدى للصغار ، والثقة فيهم ، وتقبلهم ، ومساعدتهم على التعبير عن انفعالاتهم بطريقة مقبولة ، وإعانتهم على التفكير فى حل المشكلات ، وفض الصراعات بطريقة مناسبة وتنمية روح الاستقلال والتصرف بلباقة فى جميع المواقف التى تصادفهم فى البيت والمدرسة والمجتمع المحلى .
واتخاذ القرار الخلقى إجراء يكتسب بملاحظة الراشدين الذين يمارسونه بأنفسهم ، ويتوقعون من الآخرين ممارسته . فالآباء والمعلمون الذين يشكون فى قدرة الصغار على التفكير لأنفسهم يضيقون عليهم فرص النمو ، والاستقلال والقدرة على اتخاذ القرار ، وتحمل المسئولية .
ويذهب آرثر كومز (1990 ، ص92) إلى أن الشعور بالمسئولية أمر متعلم ومكتسب من الخبرة حيث يقول : " إننا نتعلم أن نكون مسئولين من خلال الخبرات الناجحة فى الأعمال البسيطة أولا، ثم فى الأعمال الأكبر ، والأكثر تعقيدا ، التى تناسب مستوى نضوجنا... ويتعلم الشباب المسئولية بتوليه للمسئولية . ولا ينبغى أن نتوقع تعلم الشباب للمسئولية إذا جنبناهم الاضطلاع بها وتحمل تبعاتها " . حقا إن هذا النوع من التعليم غير مريح للراشدين ، ويستغرق وقتا طويلا ، ولكنه ضرورى لإعداد أفراد خلقيين .
وهناك استراتيجيات تعليمية ممكنة تعين الصغار على إصدار الأحكام الخلقية ، واتخاذ القرار ، وحل المشكلات ، منها أسلوب توضيح القيم الذى يقود الصغار بالحوار والمناقشة إلى معرفة قيمهم ، ومبررات الاعتقاد فيها ، اعتمادا على التفكير فى النتائج المحتملة ، التى تترتب على اختيارهم لبدائل معينة ؛ وأسلوب التفكير الخلقى لكولبرج ، الذى يشجع على الانتقال من المراحل الأدنى إلى المراحل الأعلى للتفكير الخلقى عن طريق إتاحة الفرص لمناقشة مختلف القضايا والمشكلات المرتبطة بالحياة داخل المدرسة .
ويمكن أن يوجه الآباء والمعلمون صورا تعليمية أخرى تفيد فى إكساب مهارات التفكير الخلقى كتلك الأسئلة التى يطرحونها على الصغار مثل ماذا يكون الحال إذا سلك كل شخص على النحو الذى تسلك ؟ وماذا يكون شعورك إذا فعل شخص هذا لك ؟ إن أمثال تلك التجارب الفكرية تعين الصغار على وضع أنفسهم موضع الآخرين والشعور بشعورهم والتعاطف معهم ، الأمر الذى يحول دون وقوع كثير من المشكلات الخلقية والسلوكية فى البيت والمدرسة والشارع .
إننا نستطيع بالاعتماد على غير أسلوب أن نعين الصغار على تذوق حلاوة التفكير الخلقى ، وممارسة المهارات التى يقتضيها باستخدام أمثلة ومواقف متدرجة الصعوبة من الحياة اليومية ، وبالتالى نستطيع أن ننقل إليهم طائفة من الحقائق والقواعد المرتبطة بها ، وبعضا من المهارات والإجراءات اللازمة للسلوك الخلقى . ولكن هل يلزم عن تعلم الحقائق والمهارات الخلقية السلوك بمقتضاها؟ إن هذا ما نحاول الإجابة عنه فيما يلى .
3- تعليم السلوك :
يستطيع الإنسان أن يتعلم كثيرا من الحقائق ويكتسب كثيراً من المهارات ولا يسلك بمقتضى ما تعلم . ومن ثم فإن تعليم السلوك يجب أن يعلب دورا مهما فى التربية الخلقية . فالسلوك الخلقى يحتاج بالإضافة إلى المعرفة والمهارة إلى الوجدانات والعادات السلوكية . ولقد ميز دافيد سون ويونسس Davidson & Youniss (1991) بين المعتقدات النظرية للشخص وأنماط عاداته السلوكية ، وأكدا أن التنمية الخلقية تتمثل فى إعانة الشخص على التحول من الاعتقاد العقلى إلى السلوك المباشر من خلال الدافعية . فالإنسان قد لا يرغب أحيانا فى فعل ما ينبغى له فعله ، وبالتالى يجب تنمية إرادة فعل الخير لديه . والسؤال الذى يطرح نفسه هنا هو ماذا يمكن عمله لتعليم الصغار أن يكونوا أخيارا؟ يذهب كولبرج Kohlberg (1981) إلى أن الكثير يعتمد على عمر الطفل ومستوى نضوجه ، فهناك اعتبارات مختلفة تدفع الأطفال فى مراحل نموهم المختلفة ، ففى المراحل الدنيا من النمو تكون المكافآت والعقوبات ذات أهمية كبيرة باعتبارها بواعث خلقية . وفى المراحل الأعلى يكون الشعور بالرضا عن البلوغ إلى قرار خلقى يمكن تبريره باعثا قويا على العناية بالتفكير الخلقى بما هو كذلك . وبالتالى يمكن الاعتماد على نموذج التحليل السلوكى بما يشتمل عليه من تعزيز موجب وسالب لتنمية إرادة الخير لدى الناشئة فى المراحل الأدنى من النمو ، واستخدام نموذج الضبط الذاتى بآلياته المختلفة لتنمية إرادة الخير فى المراحل الأعلى . كما ونستطيع تعليم الناشئة الاهتمام بمصالح الآخرين والعمل على إسعادهم من خلال زيادة معرفتهم بهم . فالأطفال لا يتعلمون مراعاة مشاعر الآخرين والاهتمام بسعادتهم وتقليل آلامهم دون معرفة الكثير عن أنماط حياتهم ، وأساليب تفكيرهم ، وطريقة رؤيتهم للعالم . وبالتالى يمكن أن يكون للقاءات ، والاجتماعات ، والاشتراك فى المعسكرات ، وتبادل الزيارات ، والقيام بالرحلات ، أثر بالغ فى زيادة فرص التعارف والإطلاع على ثقافة الآخرين ، بما تشتمل عليه من مبادئ وقيم ومعايير وطرق تفكير وأنماط سلوك ، الأمر الذى يزيد القدرة على التسامح ، والتعاون ، والاحترام ، ونبذ العنف والعدوان ، مما يهيئ بيئة نظيفة يغلب عليها الشعور بالنحن ، ويسودها الإحساس بالأمن ، وتكون مناسبة للتعلم والتعليم .
ولا تستطيع مؤسسة واحدة توفير جميع مطالب التنمية الخلقية ، بل ينبغى أن تتعاون جميع المؤسسات الاجتماعية التى تتعامل مع الأطفال والشباب ، وأن يشترك الآباء والمعلمون والأخصائيون وقادة الفكر فى تقديم الإرشاد الخلقى المناسب ، والتأكد من سلوك الناشئة بمقتضاه ، من خلال ما يوفرونه من فرص للتنمية الخلقية ، على النحو الذى بيناه آنفا ، وأجمله ستارات Starratt (1994، ص60) بقوله : " حينما يواجه الناشئة كل يوم معلمين يعتبرون نماذج خلقية ، وتناقش الأمور الخلقية فى مختلف المقررات الدراسية ، وتتاح فرص الممارسة الخلقية ، ويتوفر جو من العناية والرعاية والعدل ، وتهيئ فرص للإفادة من المرشدين والأخصائيين النفسيين والاجتماعيين ، ويتعاون البيت والمدرسة فى تحقيق الأهداف الخلقية ، هنا لا يمكن إغفال الرسالة المراد نقلها إلى الناشئة " .




المراجــع
1- أرثر كومز ، خرافات فى التربية : المعتقدات التى تعوق التقدم وبدائلها (ترجمة عبد المجيد شيحة) ، عالم الكتب ، القاهرة ، 1990 .
2- ألفريد وفيرلان : مشكلات الانضباط فى النظام المدرسى فى المكسيك ، مستقبليات ، المجلد (28) ، العدد (4)، مركز مطبوعات اليونسكو ، القاهرة ، ديسمبر ، 1998.
3- الفريد وفيرلان : مقدمة ملف " مراقبة الانضباط فى المدرسة " ، مرجع سابق .
4- أنّا مارياسيردا وجينى آسيل : النظام المدرسى وبناء القيم فى الحياة اليومية بالمدارس الثانوية ، مستقبليات ، مرجع سابق .
5- جريدة الأخبار : العدد الصادر فى 5/1/1995، 16/12/1996، 28/10/1997 ، 30/1/1997 .
6- جريدة الأهرام : العدد الصادر فى 9/5/1994 ، 28/3/1996 .
7- جمال على الدهشان: العقاب المدرسى دراسة لآراء معلمى التعليم الثانوى بمحافظة المنوفية ، بحوث مؤتمر التعليم الثانوى الحاضر والمستقبل، رابطة التربية الحديثة، القاهرة، 1991، ص 6100.
8- براد لى أ. ليفنسون : الانضباط ورؤية من المستويات الأدنى : حجج الطلبة ومنطقهم لعدم الانصياع فى المدارس الثانوية فى الولايات المتحدة الأمريكية ، مستقبليات ، مرجع سابق .
9- ديفيد تيرنر : الإصلاح المدرسى فى انجلترا ، مستقبليات ، مرجع سابق .
10- روزاريو أورتيجاريوز : عدم الانضباط أم العنف ؟ مشكلة الترهيب فى المدرسة ، مستقبليات ، مرجع سابق .
11- ماريونونا رودوسكى : نظام الإنذارات لعلاج سوء السلوك فى المدارس الثانوية فى الأرجنتين ، مستقبليات ، مرجع سابق .
12- Alberto, I., and Troutman, A., Applied Behavior Analysis for Teachers, 3rd ed., New York: Merriel-Macmillan, 1990.
13- Aristotle, Echics (Translated by J. Thompson), Harmondsworth: Penguin, 1955.
14- Baier, K., "Moral Autonomy as an Aim of Moral Education" in Langford, G., and O'Conner (eds.) New Essays in the Philosophy of Education, London : Routledge, 1973.
15- Bennett, W. "Moral Literacy and the Formation of Character" in K., Sidey (ed.) The Blackboard Fumble, Victor Books,  U.S.A, 1989.
16- Berkowitz, M., and Grych, J., "Fostering Goodness" Teaching Parents to Facilitate Children's Moral Development" Journal of Moral Education. Vol. 27, No. 3, 1998, pp. 371-391.
17- Blandford, S. Managing Discipline in Schools, London: Routledge, 1998.
18- Block, A: The Battered Teacher, Today's Education. Vol. 66.
19- Bodine, R., Grwford, D., and Schrumph, F., Creating the Peaceable School: A Comprehensive Program for Teaching Conflict Resolution, Campaign, IL: Research Press, 1994.
20- Borba, M. Building Moral Intelligence: The Seven Essential Virtues that Teach Kids to do the Right Thing, San Francisco, Journey – Bars, 2001.
21- Davidson, P. & Youniss J. "Which Comes First, Morality or Identity" in W. Kurtines & J. Gewirtg (eds.) Handbook of Moral Development and Behavior, Vol. 1, Hills Dale, NJ., Erlbaum, 1991, pp. 105-181.
22- Dreikurs, R. Discipline without Tears: What to do with Children who Misbehave, New York: Hawthorn Books, 1972.
23- Figler, H. The Complete Job Search Handbook, Holt, Rinehart Winston, NYC., 1979.
24- Freud, S., The Ego and the Id. (Translated by Joan Riviera) New York .. W.W. Norton & Company. Inc., 1960.
25- Glasser, W. Shcools Without Failure. New York: Harper, 1969.
26- Glasser, W. Reality Therapy, New York: Harper, 1975.
27- Glasser, W. Central Theory in the Classroom, New York. Harper, 1986.
28- Glasser, W. the Quality School : Managing Students Without Coercion and ed., New York., Harper, 1992.
29- Goldestein, A. P., Alper, S. J. & Harostunidn, B.: School Violence, New Jersey, Prentice – Hall, Inc., 1984.
30- Goldstein, A., and Conoley, J., (eds.), School Violence Intervention, New York: The Guilford Press, 1997.
31- Gordon, T. Teaching children Slef-discipline: At Home and at School, New York: Times Books, 1988.
32- Hare, R. The Language of Morals, London: OUP, 1952.
33- Hare, R. Freedom and Reason, London: OUP, 1963.
34- Hare, R. "Language and Moral Education" in G Longford and D. O'Conner (eds.), New Essays in the Philosophy of Education, London: Routledge, 1973, pp. 149-166.
35- Jones, I., Positive Classroom Discipline, New York: Mc Gra-Hill, 1987.
36- Kohlberg, L. "Moral Stages and Moralization" in T. Lickona (ed.), Moral Development and Behavior, New York, Holt, 1976.
37- Kohlberg L., The Philosophy of Moral Development: Moral Stages and the Idea of Justice, Cambridge, MA: Harper and Row, 1981.
38- Mann, H., Improvement of Education: Its Interpretation for Democracy, Fifteenth Yearbook, the Department of Superintendence of the National Education Association of the United States, Washington, D. C., 1937.
39- McGinnis, E., and Goldstein, A. Skill-Streaming the Elementary School Child, Champaign, IL.: Research Press, 1997.
40- Mc. Partanol. J & Mc. Diel, E, Violence in School, Lexingtain Mars: Lexington Books, 1997.
41- Mcphail, P., Ungoed- Thomas, J., and Chapman, H., Moral Education in the Secondary School, London, 1972.
42- Moore, G. Principia Ethica, Cambridge: At the University Press, 1968.
43- Peters, R. Ethics and Education, London: Allen, 1966.
44- Peters, R., Psychology and Ethical Development, London, Allen, 1974.
45- Piaget, J., The Moral Judgment of the Child, London: Routledge, 1932.
46- Power, F., Ttiggins, A. & Kohlberg, S Approach to Moral ed. New York, Columbia Univ. press, 1989.
47- Raths, L., et al., Values and Teaching (Red. ed.) Columbia, Univ." Charles Morrill Publishing co., 1978.
48- Rogers, c., OM Becoming A Person, Boston: Houghton Mifflin, 1961.
49- Rogers, C. Client-centered Therapy Benton .. Houghton Mifflin co., 1965.
50- Rousseau, J. Emile, London: Dent, 1961.
51- Sartre, J., Existentialism and Humanism, London: Exyre Charles, 1973.
52- Schrumpf, 1., Crawford, D., and Bodin, R., Peer Mediation: conflict Resolution in schools, Champaign, JL.: Research Press, 1997.
53- Schwitz gebel, R. and Kolb, D. Changing Human Behavior Principles of Planned Intervention, Tokyo: McGraw- Hile kogakusha, LTD, 1974.
54- Simon, H., Adminisistrative  Behavior: A Study of Decision Making Processes in Administrative Organization (3rd ed.) New York: The Free Press, 1976.
55- Starratt, R., Building an Ethical Response to the Moral Crisis in Schools, London: The Flamer Press, 1994.
56- Stevenson, C., Ethics and Language, New Haven: Conn.: Yale University Press, 1944.
57- Stevens, Ronald: "National Trends in School Violence Statistics and Prevention Strategies" in Goldstein, A. & Conoley, J. (eds.): School Violence Intervention: A Practical Handbook, New York: the Guilford press, 1997.
58- Striepling, S., "The Low-Aggression Classroom, A Teacher's View" in Goldstein, A., and Conoley, J., (eds.), School Violence Intervention, New York: The Guilford press, 1997.
59- Walfganey, C., and & Clickman, C., Solving Discipline Problems: Strategies for Classroom Teachers, Boston: Allen & Bacon,  1980.
60- Warnock, M., Contemporary Moral Philosophy, London: Macmillan, 1967.
61- Wolfgang, C. Solving Discipline Problems Boston: Allen & Bacon, 1999.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق